هذه الحادثة التي رويتها من أفواه الشيوخ الثقاة الذين بلغ بعضهم العقد العاشر و كان أحدهم يروي لي الحادثة وهو أما شاهد عيان لها أو ينقلها عمن شاهد الأحداث من الشيوخ القدامى الموثق في روايتهم على الطريقة نفسها التي نقلتها منهم.
هذه الحادثة التي أقدمها للقارئ الآن كانت من ضمن الحوادث التي في طي النسيان وكان من المفروض أن تذهب في طي الإهمال و الضياع كما ضاع الكثير من أمثالها من الحوادث التي اختفت في صدور الرواة الذين لحقوا بالرفيق الأعلى، وذلك كما ضاع مني السجل .. كذلك ضاعت الحادثة برمتها عن ذاكرتي بحكم طول العهد الذي رويتها فيه، ولكن بعد هذه المدة الطويلة سرعان ما عادت لذاكرتي و ذلك عندما جاءت مناسبة مماثلة لها وهي اهتمام إسرائيل بتحويل نهر الأردن، وعندها شكرت صاحب المثل : (الشيء بالشيء يذكر).
وهذه الحادثة وإن كانت محصورة في نطاق قبلي ضيق، إلا أنها تعطي صورة عن الخلق العربي بمفهومه الشامل و الفسيح.
ومن بديهيات الأمور أنه عندما يأتي نكرة ما، ومن ثم يحاول أن ينافس رجالاً ذوي شهرة كبيرة و مجد عريق و زعامة موروثة، فأنه سوف يلاقي من معارضيه من العداوة و الصراع الشيء الذي قد يدفع حياته ثمناً لهذه المنافسة.. وإن كتب له النجاح فأنه لن ينجح إلا بعد صراع مرير و نضال قد يقضي به زهرة شبابه.
هذا إذا توفرت فيه جميع مؤهلات الزعامة و أصبح لديه من الرصيد الوطني القدر الوافر الذي يشفع له بين مواطنيه، و يرغم معارضيه على الاستسلام.
و فتى كعبد الله العلي الرشيد ذلك العصامي الذي لمع نجمه في منتصف القرن الثالث عشر الهجري و في الثلث الأول من القرن التاسع عشر الهجري الميلادي والذي توفرت في شخصه جميع مؤهلات الزعامة بكاملها، ففتى كعبد الله أبن الفلاح البسيط ليس من السهولة بمكان أن يذعن لزعامته أبناء الأسر ذات الزعامة الوراثية العريقة في قبيلته شمر كأبن علي مثلاً أمير حائل و رئيس عشيرة (عبده)، و كأبن طواله رئيس عشيرة (الأسلم) ، و هذان الرئيسان من أكبر رؤساء القبيلة، وهما من أشد العارضين لعبد الله عندما ولاه الأمام فيصل بن سعود إمارة بلاده حائل، والمعارض الأول كان أشد ضراوة و أقسى عنفاً بحكم أنه نافسه على إمارة بلاده، وقد وصل الأمر إلى أن قتل عبيد شقيق عبد الله رجالاً من آل علي كما أن عبيد نفسه طعن في أحد المعارك زعيم قبيلة الأسلم(نعيس بن طواله) طعنة خطيرة بتر بها رجله ، الأمر الذي جعل العداوة تتفاقم و تستحكم بينه من جانب و بين أبن علي من جانب آخر.
وكل من الجبهتين المتنازعتين لهما أنصار من القبيلة نفسها، و معناه أن شقاقهم جميعاً سوف يكون على حساب القبيلة ومن شأنه أن يضعف شوكتها ويجعل الأعداء يطمعون بسحقها عند أقرب فرصة.
و عندما نقل الأمام فيصل بن سعود إلى مصر و أختل توازن القوى في نجد و ظن أعداء عبد الله أن الفرصة مواتية للقضاء عليه و أن هذه الفرصة أصبحت متيسرة أكثر من أي وقت مضى بحكم عدم وجود من يحمي ظهره من الخارج، وكون الصراع بينه وبين رؤساء قبيلته قائماً على قدم وساق في تلك الفترة بالذات.
فقد تجمهر أعداؤه من الخارج و تحزبوا جميعاً لغزوه ببلاده وهم :
يحيى بن سليم أمير عنزه
و عبد العزيز المحمد أمير بريده
و برجس بن مجلاد رئيس الدهامشة من عنزة
و معنى ذلك أن هؤلاء الغزاة الخارجيين أصبحوا غازين للقبيلة بأسرها، وانتصارهم على عبد الله يعتبر انتصارا على قبيلة شمر وفي هذه الأثناء أصبح عبد الله الرشيد في موقف حرج لا يدري من يقاتل.
هل يقاتل زعماء قبيلته الذين نافسهم على الزعامة أم يقاتل العدو الخارجي الذي غزاه بجيش جرار؟
في حين أن صديقه الحميم الأمام فيصل بن تركي استولى عليه القائد التركي خورشيد باشا منذ سنتين و أصبح الحاكم في الرياض خالد بن سعود عدو صديقه الذي لا يكره أن يهزم عبد الله باعتباره من أنصار الأمام فيصل.
وفي هذا الظرف الذي كان عبد الله محارباً من كل الجهات توافد عليه أبناء عمه الزعيمان اللذان نافسهما على رئاسة القبيلة وهما (نعيس بن طواله) رئيس عشيرة الأسلم و(صحن بن علي) رئيس عشيرة(عبده) وقال الأول:لا يمنعني من مناصرتك كأبن عم حتى ولو قطعت رجلي لأن القضية أصبحت خارجة عن نطاق عداوتنا الشخصية و دخلت مدخلاً آخر أستغله أعداؤنا لضرب القبيلة بكاملها.
وقال صحن بن علي:
لقد جئت نجدة لك حتى لو قتلت أخواني و أبناء عمي لأن العداوة خرجت عن نطاق التنافس بيننا و دخلت مرحلة أخرى استغلها أعداؤنا جميعاً وهذا ما جعلني أتنازل عن طلبي بالثأر منك لئلا يشتت العدو شمل القبيلة و يقضي على كيانها و ييتم أطفالنا و يرمل نساءنا بسبب تنازعنا.
وكانت نتيجة تضامنهم و تناسي أحقادهم أن صدوا هجوم العدو و هزموهم شر هزيمة في المعركة المعروفة باسم ( بقعاء) الكائنة سنة 1255هـ-1840م
الصياغة بلسان المؤلف:
والمصدر : من شيم العرب لفهد المارك ص128
المفضلات