أعوذُ بكلماتِ الله التامّاتِ من شرِّ ما خلقَ
هكذا تسامعنا في أنديتنا ، ومجالسنا ، أنّ سيرة الجنِّ والنساءِ غيرُ منغلقتينِ أذا فُتحتا ، ويبدو أنّ الواقعَ مؤيدٌ لذلك ، وعندَ الأصوليين : دلالةُ الحسِّ معتبرةٌ عند التعارضِ ،
والواقعُ ، والحسُّ ، يشهدانِ بذلك ،
ولا غروَ في تعلُّقِ الناسِ بسيرِ النساءِ ، فذلك بموجبِ الفطرِ ، والغرائزِ ، وأغلب البشر يتعلقون بالنساءِ تعلقاً غريزياً محضاً ، فيتطلبون من أخبارها ، ما يكون مرغباً في نكاحها ، وهذا شأنُ أغلب الخلقِ ،
وفي الناسِ طائفةٌ تتعلّقُ بالنساءِ تعلقَ عاطفةٍ وإعجابٍ ، وهذا الطائفةُ كانت فيما مضى قليلةً جداً ، وأمّا في عصرنا هذا ، ومع قلّةِ الزواجِ ، وكثرة العوائقِ والصوارف عنه ، فقد ظهر هذا النمطُ الآن وانتشرَ ، وأصبح أحدهم يتعلق من المرأةِ بظاهرٍ منها ، ويصرف في ذلك الأوقاتَ والأموالَ وربما الأنفسَ ، كل ذلك من أجل خطبِ ودّها عاطفياً ،
وهذا مرضٌ مستفحلٌ ، وخطبٌ عضالٌ ، وأخبثُ منهُ وأكذبُ ، هو من يدّعي الزواج بعدهُ ، وهذا يكفيكَ من إبطالِ كلامهِ ظاهرُ حالهِ ،
وقد أصبح من شبهِ المستفيضِ حساً ، والمتواترِ خبراً قلةُ التوافقِ بين الزوجينِ بعد فترةِ حبٍ ، بل في الأغلبِ ينتهي بفشلٍ ذريعٍ ،
وسببُ ذلك أن الحب غايته : صفاةٌ ملائكيةٌ ، يراها أحدها في حبيبهِ ، وأساسُ مادةِ الحب : العمى عن عيوب الحبيب ، والتلذذ برؤيةِ محاسنهِ ، وكمالِ أوصافهِ ،
والزواجُ من ضروراتهِ : رؤيةُ العيوبُ ، وانكشاف المستورِ منها ، وفطِنَ لهذا نبيّنا صلى الله عليهِ وآله وسلّم ، فأرشدنا بقولهِ " لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً ، إذا عاب منها خلقاً رضي منها آخر " ،
ولهذا من القواعدِ المسلّمةِ لدى من يحب ، القاعدةُ التي تقولُ : في حياةِ كل رجلٍ امرأتان : واحدةٌ يحبها ، وأخرى يتزوجها ،
وعلى كل حالٍ : اتفقتِ الأنفسُ في ميلها للنساءِ بموجب الفطرة ، أو العاطفةِ ، ولهذا تتبعوا أخبارها ، واستملحوا لها صفاةٍ ومحاسنَ ، ذكرت في الكتبِ الخاصةِ في أخبار النساءِ ،
ومن أخبارهنَّ ما قالهُ خالد بن صفوان : من تزوّجَ امرأةً فليتزوّجها عزيزةً في قومها ، ذليلةً في نفسها ، أدّبها الغني ، وأذلّها الفقرُ ، حصاناً - يعني عفيفةً - من جارها ، ماجنةً عند زوجها ،
وهذا الذي ذكرهُ خالدُ بنُ صفوانَ تغفلُ عنهُ كثيرٌ من النسوةِ ، فيتحفظنَّ لدى أزواجهنَّ ، ممّا يوجبُ لأزواجهنَّ النفرةَ ، بل وتارةً الاستعاضةَ إمّا بالحرامِ - أجارنا اللهُ - أو بالحلالِ كزوجةٍ أخرى ،
والنساءُ على شدة حبِّ النفوس لهنَّ ، وتعلقها بخبرهنَّ ، إلا أنهنّ ذو مكائدَ وخطرٍ لا يعلمه إلا اللهُ ، وهذا قل أن تسلمَ منه أمرأةٌ ، بل قال النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لبعضِ أمهاتِ المؤمنين " إنكن صواحبُ يوسف " ، في إشارةٍ منه صلى الله عليه وآله وسلّم إلى تأصُّلِ ذلك في نفوسهنَّ ،
ولهذا قال وهب بن منبهٍ متندراً بشدةِ كيدهنَّ : عاقبَ اللهُ المرأةَ بعشرِ خصالٍ : شدةُ النفاسِ ، وبالحيضِ ، وبالنجاسةِ في بطنها ، وجعلَ ميراثَ امرأتينِ ميراثَ رجلٍ واحدٍ ، وشهادةَ امرأةٍ كشهادةِ رجلينِ ، وجعلها ناقصةَ عقلٍ ودينٍ لا تصلي أيامَ حيضها ، ولا يسلّمُ عليهنَّ ، وليس عليهنّ جمعةٌ ولا جماعةٌ ، ولا يكون منهنَّ نبيٌ ، ولا تسافرُ إلا بوليٍ ،
وهذا الذي ذكره وهبٌ فيه أشياءُ صحيحةٌ ، وفيه أشياءُ هي تخفيفٌ من اللهِ ورحمةٌ ، وفيه أشياءُ غير مسلمةٍ ، وهي بحمدِ الله واضحةٌ جليةٌ ، والقصد من هذا بيانُ أن المرأةَ لم تسلم من وصفها بالكيدِ والمكرِ البتةَ ،
لن أطيل في النساءِ حتى لا تملّوا ،
وأما الجنُّ ، فهم شقائقُ الإنسِ في التكليفِ ، وقد سبقوا الإنسَ في الخلقِ ، فهم مخلوقون قبل الإنس ، كما قال تعالى (( والجانَّ خلقناهُ من قبلُ من نارِ السّمومِ )) ،
وسمّوا جنّاً لاجتنانهم عن الأبصار أي اختفائهم ، وعدم ظهورهم ، واستتارهم ،
وهم مغايرون للإنس في الخلقةِ والخلقِ ،
ففي الخلقةِ هم مخلوقون من نارٍ ، خلافَ الملائكةِ المخلوقةِ من نورٍ ، وخلافَ الإنسِ المخلوقينَ من طينٍ ، ولهذا لما كان خلقهم من نارٍ ، اكتسبوا خفةَ النارِ وطيشانها ، فأصبحوا يطيرون ، ويتشكلون ، وتتغاير صفاتهم الشكلية ، تبعاً لمادةِ خلقتهم الأصليةِ ،
وأمّا في الأخلاقِ فهم مثل البشرِ في الجملةِ ، فيهم الصادق والكاذب ، والمسلم والكافر ، وإن كانوا في الجملةِ ليسوا مثل البشرِ ، بل هم أطيشُ وأجبنُ وأكذب ،
ويوجد لدى الجنِّ مثل طوائفِ البشرِ ، وقد سألَ الشعبيُّ أحدَ الجنِّ مرةً ، فقال له الشعبيُّ : هل فيكم مثل ما لدى البشرِ من الطوائفِ الضالةِ ؟ فقال الجنيُ نعم ، قال الشعبيُّ : فما هو أخبثها ؟ قال الجنيُ : أخبث طوائفنا هم الرافضةُ ،
ووطعامُ الجنِّ هو العظام ، وروث البهائمِ ونحوها ، وتارةً قد ياكلون من طعامِ البشرِ نفسهِ ، كما وقعَ في قصةِ أبي هريرةَ رضى الله عنهُ ، مع ذلك الجني الذي كان يسرق من الصدقةِ التي جعل النبي صلى الله عليه وآلهِ وسلّمَ عليها أبا هريرةَ ،
وقد حدثني أحد أحفادِ الشيخ العالم : عطية بن محمد سالم - رحمه اللهُ - أن الشيخ مرةً طلب منه إحضار شاي للمجلسِ ، قال فأحضرت الشاي ، وقدمته ، فقال الشيخ صبه ، قال فصببتُ الشاي ، ولم أرَ في مجلسِ الشيخ أحداً إلا هو لوحدهِ !! ، ثم خرجتُ ، وعدتُ بعد فترةٍ ، فوجدت البيالات موزعةً على الطوالاتِ وفيها شايٌ قد شربَ ، قال : فسألتُ الشيخ ، فقال له : قد كان عندي بعض طلبةِ العلمِ من الجنِّ ،
وقد يتمثلون للبشر ، ويتصوّرون لهُ ، وأمّا صورتهم الحقيقةُ فلا يراهم عليها أحدٌ أبداً ، كما قال تعالى (( إنّهم يراكم هو وقبيلهُ من حيث لا ترونهم )) ، فمن رأى شيئاً من الجنِّ ، فإنهُ لم يرهُ على حقيقتهِ ، بل راءهُ على صورةٍ تمثلها ذلك الجنيُ ، وذكر الإمامُ الشافعي رحمه الله أن الأنبياء يروون الجنّ على صورتهم الحقيقةِ ، وهذا ظاهر القرءان والسنة ، وأما غيرهم من البشر فلا يرونهم إلا على صورةٍ يتمثلون بها ،
ومن الغرائب المنقولةِ في هذا ، ما ذكره الإمام ابن كثير ، في كتابهِ البداية والنهاية : أنّه عندما فتح موسى بن نصير بلاد أفريقيا ، أُتي بقوارير مغلقةٍ عليها ختم سليمان صلى الله عليه وسلم ، وكانت هذه القوارير ملقاةً بأحد جزائرِ البحرِ ، ففتحَ إحداها ، فطلع ماردٌ ينفضُ رأسهُ ويقول : والله لا أعودُ لمثلها أبداً ، والله لن أعود ثانيةً ، ثم رفع الماردُ رأسه وقال : مالي لا أرى سليمان ؟؟ ثم غاص في البحر ، فأمر بعدها موسى بن نصير أن تلقى هذه القواريرُ في البحرِ ،
وهذه القصة تدل على طول عمر الجنِّ ، وهذا أمرٌ متفقٌ عليهِ ، فهم في الجملةِ أكبر من الإنس عمراً وأطولُ ،
ولا زال ذكرُ الجن ، وأساطيرهم ، وتلاعبهم ببني آدمَ موجوداً في تراثنا ، بل وحتى في كلامِ العامةِ ، فمثلاً يقولون عندما يريدون إخافةَ الطفلِ : اسكت لا ياخذك البعبع ، وفي بعض النواحي يسمونها بالغولة ، وفي الحجازِ بالنمنم ، وفي الكويت يسمونها : الطنطل ،
ولهم أساطيرُ وقصص تقعُ للكثير من الناسِ ، ويتداولونها وتنتشر ،
والجن تحبُ اللعبِ ببني آدم ، وخصوصاً الضعفةَ منهم ، بل ويحاربون الإنس بمعارك ، وقد جعل النبي صلى الله عليه وآلهِ وسلّم الطاعون من وخز أعدائنا من الجنِّ كما ثبت ذلك في الصحيح ، ولهذا يجبُ التحصن ، وقراءةُ الأذكارِ ، والدعاء بوقايةِ شرهم ،
وهناكَ مسائل مهمةٌ : هل يتزوّج الأنس من الجني ؟ وهل يقعُ ذلك حساً ؟ وكيف يكون مصير الأبناءِ ؟ هل يأخذون حكم الجنِّ وصفاتهم ؟ أم حكم الإنسِ وصفاتهم ؟
المفضلات