« ظَاهِرَةُ التَّسَوُّلِ »
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
15/8/1446هـ
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِن الْأَعْمَالِ الْمُشِينَةِ، وَالْمِهَنِ الدَّخِيلَةِ عَلَى بِلَادِنَا ظَاهِرَةُ التَّسَوُّلِ؛ الَّتِي هِيَ إِسَاءَةٌ لِمُجْتَمَعِنَا، وَإِذْلَالٌ لِكَرَامَةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي يُزَاوِلُهَا، وَالرَّسُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ» [رواه الترمذي، وقال الألباني في هداية الرواة: حسن غريب بغيره].
وَقَدْ حَذَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِنْ هَذِهِ الْمِهْنَةِ، وَنَفَّرَ مِنْهَا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَفْقِدُ كَرَامَتَهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُعَرِّضُهَا لِلْوُقُوفِ بِمَوَاقِفِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، وَيُسِيءُ أَيْضًا إِلَى آخِرَتِهِ؛ لِمَا رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِيِ صَحِيِحَيْهِمَا مِنْ حَدِيِثِ ابْنِ عُمَرَ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ».
وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- : « ثَلاثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، وَأُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا فَاحْفَظُوهُ.
قَالَ: مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ، وَلاَ ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً فَصَبَرَ عَلَيْهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ عِزًّا، وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ. أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا...» [صحيح الترمذي].
وَمَعَ أَنَّهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- حَذَّرَ مِنْ مِهْنَةِ التَّسَوُّلِ إِلَّا أَنَّهُ أَرْشَدَ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لِلْمُحْتَاجِ وَأَرْحَمُ ، وَأَشْرَفُ لَهُ وَأَكْرَمُ مِنْ مَدِّ يَدِهِ لِغَيْرِهِ أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ، فَقَالَ: «لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ -أَيْ: يَذْهَبَ فِي الصَّبَاحِ- فَيَحْطِبَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدَّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النَّاسِ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلًا، أَعْطَاهُ، أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» [متفق عليه].
وَبَيَّنَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: أَنَّ مِنْ مَعَانِي الْعِزَّةِ وَالْكَرَامَةِ لِمَنْ رُزِقَ مَالًا أَوْ صِحَّةَ بَدَنٍ: الْقَنَاعَةَ وَالرِّضَا بِمَا قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ رِزْقٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْتَزِيدَ مِنْ أَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ وَالزَّكَوَاتِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلاَ لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» أَيِ: الْقَوِيِّ صَحِيحِ الْبَدَنِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ وَبَذْلِ الْجُهْدِ لِكَسْبِ مَا يَكْفِيهِ مِنَ الْمَالِ . [رواه أبو داود، وصححه الألباني].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ ظَاهِرَةَ التَّسَوُّلِ مِنْ أَخْطَرِ الظَّوَاهِرِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ الَّتِي تُهَدِّدُ الْمُجْتَمَعَ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ.
فَمِنْ خَطَرِهَا: أَنَّهَا تُشِيعُ الْبِطَالَةَ وَرُوحَ الْكَسَلِ فِي الْمُجْتَمَعِ، مِمَّا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ عَلَى اقْتِصَادِ الْبَلَدِ.
وَمِنْ خَطَرِهَا: أَنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْكَذِبِ وَالتَّدْلِيسِ، وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا.
وَمِنْ خَطَرِهَا: أَنَّهَا تَتَسَبَّبُ فِي حِرْمَانِ فِئَةٍ كَبِيرَةٍ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي فَرَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّونَ الصَّدَقَةَ، وَالَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: ﴿يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾ [البقرة : 273].
وَمِنْ خَطَرِهَا: مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ كَوَارِثَ أَخْلَاقِيَّةٍ ، وَجَرَائِمَ أَمْنِيَّةٍ مِمَّا لَا يَخْفَى.
وَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى الْمُجْتَمَعِ أَنْ يُوَاجِهَ هَذِهِ الظَّاهِرَةَ بِكُلِّ حَزْمٍ وَبِشَتَّى الْوَسَائِلِ الْمُتَاحَةِ، وَأَنْ يَبْحَثَ النَّاسُ عَنِ الْفُقَرَاءِ الْحَقِيقِيِّينَ مِمَّنْ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، وَيُسَاعِدُ عَلَى هَذَا أَنْ تُودَعَ الصَّدَقَاتُ وَالتَّبَرُّعَاتُ فِي الْجِهَاتِ الرَّسْمِيَّةِ؛ كَمِنَصَّةِ إِحْسَانٍ؛ فَهِيَ الْجَدِيرَةُ بِالْوُصُولِ إِلَيْهِمْ.
اللهُمَّ أعزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الـشِّـرْكَ والمُـشـْرِكِينَ، وَاحْمِ حَوْزَةَ الدِّين.
اللهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَنِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا.
اللَّهُمَّ وَفِّقْ جَمِيعَ وُلاَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْعَمَلِ بِكِتَابِكَ، وَاتِّبَاعِ سُنَّةِ نَبِيِّكَ، وَتَحْكِيمِ شَرْعِكَ.
اللهُمَّ وَفِّق إمَامَنَا خَادِمَ الْحَرَمَيْنِ لِما فِيه عِزُّ الْإِسْلَامَ وَصَلَاحُ الْمُسْلِمِين.
اللهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَإِخْوَانَه وَأَعْوَانَه لِما تُحِبُّهُ وتَرْضَاهُ.
اللهُمَّ احْفَظْ جُنُودَنَا الْمُرَابِطِينَ وَرِجَالَ أَمْنِنَا، وَسَدِّدْ رَمْيَهُمْ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِالْيَهُودِ الْمُغْتَصِبِينَ، وَبِمَنْ حَقَدَ مِنَ النَّصَارَى عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِجَمِيعِ أَعْدَاءِ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ اكْفِنَا شَرَّهُمْ بِمَا شِئْتَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَدْرَأُ بِكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ.
اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نَقِمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
عِبَادَ اللهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغَيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ﴾.
فَاذْكُرُوا اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.