الحمدُ لله، نحمدُه ونَستَعِينُه ونَستغفِرُه، ونَشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريك له، ونَشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه، وأتباعهم بإحسان. أما بعد: عباد الله : الرُّؤْيَا في المنام مِمَّا يُجْرِيهِ اللهُ فِي مراقد الأنام ، وَلَهَا مِنْ أَوَّلِ الْبَشَرِيَّةِ أَهَمِّيَةٌ ومَقَامٌ ، وَلَهَا مُعَبِّرُونَ ومُفَسِّرُون؛ فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنين رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‌مِنَ ‌الْوَحْيِ ‌الرُّؤْيَا ‌الصَّادِقَةُ ‌فِي ‌النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. مُتَّفَقٌ عليه. وَغَالِبُ حَالِ الناسِ بَيْنَ إِفْرَاطٍ أَوْ تَفْرِيطٍ فِي تَفْسِيرِ الرُّؤَى، وَلِهَذَا كَانَ لِزَامًا علينا مَعْرِفَةُ أَحْكَامِ الرُّؤَى، وَآدَابِهَا، وَضَوَابِطِ تَعْبِيرِها،
فالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، فعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ» مُتَّفَقٌ عليه، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (‌الرُّؤْيَا ‌الصَّالِحَةُ ‌جُزْءٌ ‌مِنْ ‌سِتَّةٍ ‌وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ) أخرجه البخاري. فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا حَسَنَةً، فَلْيَسْتَبْشِرْ، وَلَا يُخْبِرْ بِهَا إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، وَمَنْ قُصَّتْ عَلَيْهِ رُؤْيَا، فَحَسَنٌ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ قَصَّهَا : «خَيْراً رَأَيْتَ».
والرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ. وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا ‌أَصْدَقُكُمْ ‌حَدِيثًا ) أخرجه مسلم.
والرُّؤَى الصَّالِحَةُ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَخَاصَّةً فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ ). قَالُوا: ‌وَمَا ‌الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: ( الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ ) أخرجه البخاري.
وَأَمَّا الرُّؤْيَا السَّيِّئَةُ - وَهِيَ الْحُلْمُ – فَهِيَ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَمَنْ رَأَى رُؤْيَا يَكْرَهُهَا، فَعَلَيْهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ، وَهِيَ خَمْسَةُ أَشْيَاءٍ: أَنْ يَنْفُثَ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا،
وَأَنْ يَسْتَعِيذَ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ،
وَأَنْ لَا يُخْبِرَ بِهَا أَحَدًا،
وَأَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ،
وَأَنْ يَقُومَ فَيُصَلِّيَ،
وَمَتَى فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تَضُرَّهُ الرُّؤْيَا الْمَكْرُوهَةُ بِإِذْنِ اللهِ تَعَالَى.
ثم الْحَذَرُ يا عبادَ اللهِ ، مِنَ الْكَذِبِ فِي الرُّؤَى وَالْأَحْلَامِ، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ ‌مِنْ ‌أَفْرَى ‌الْفِرَى أَنْ يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَمْ تَرَ) أخرجه البخاري. والمعنى: إِنَّ ‌مِنْ أشد الكذب أن يَدَّعِي أنه رأى رؤيا، وهو لم يَرَ شيئاً.
ثُمَّ الْحَذَرُ مِنْ تَفسير الرُّؤَى بِغَيرِ عِلمٍ. وعَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ و ِالْوِقَايَةِ مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ فِي مَنَامِكُمْ، وَبِالْمُحَافَظَةِ عَلَى صَلَاتِكُمْ، وَعَلَى قِرَاءةِ أَوْرَادِكُمْ، فَإِنَّهَا الْحِصْنُ الْحَصِينُ بِإِذْنِ اللهِ الْعَظِيمِ مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ‏﴿ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏﴾. بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، وَتَابَ عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ وتوبوا إليه؛ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتباعِهِ بإحسان. أما بعد: أيها المسلمون: فالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ يُعَبِّرُ الرُّؤَى: تَقْوَى اللهِ تعالى، وَالْحَذَرُ مِنَ الْخَوْضِ فِي تفسيرِها بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَإِنَّ تَعْبِيرَ الرُّؤَى مِنْ أَنْوَاعِ الفَتْوَى؛ بِدَليلِ مَا قَصَّهُ اللهُ تعالى فِي كِتَابِهِ فِي رُؤْيَا الْمَلِكِ حِينَ قَالَ: ‏﴿ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ﴾. فَلَا يُعَبِّرُ الرُّؤْيَا إِلَّا عَالِمٌ بِأَحْكَامِهَا، مَشْهُودٌ لَهُ بِالْعِلْمِ وَالْفَضْلِ؛ لأنه إِنْ وَجَدَ خَيْرًا أَخْبَرَ بِهِ، وَإِنْ وَجَدَ شَرًّا سَتَرَهُ، وَإِنْ جَهِلَ شَيْئًا أَوْ شَكَّ فيه سَكَتَ عَنْهُ؛ فهو مُجْتَهِدٌ فِي تَعْبِيرِهِ، وَلَيْسَ بِمَعْصُومٍ عَنِ الْخَطَأِ.
عباد الله: تَعْبِيرُ الرُّؤَى لَيْسَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي يَحْسُنُ نَشْرُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فيَجِبُ الْحَذَرُ مِنْ الْمُعَبِّرِينَ الْجُهَّالِ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ فِي الْقَنَوَاتِ الْفَضَائِيَّةِ، أَوْ فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ، وَيَجِبُ بَيَانُ خَطَرِهِمْ وَتَلَاعُبِهِمْ بِعَقَائِدِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمْ؛ بِادِّعَائِهِمْ مَعْرِفَةَ ذلك، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَسَبَّبُون في التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ وَالْأَقَارِبِ، وَتَعْلِيقِ النَّاسِ بِالْأَوْهَامِ. فاحْذَرُوا أَمْثَالَ هَؤُلاَءِ ، الَّذِينَ لَمْ يُعْرَفُوا بِعِلْمٍ وَلَا دِينٍ وَلَا تُقَى، فَيَسْتَغِلُّونَ الْبُسَطَاءَ بِقَصْدِ الشُّهْرَةِ، وَأَكْلِ الْأَمْوَالِ بِالْبَاطِلِ.
وَلْيَتَّقِ اللهَ الَّذِينَ يعبرون الرُّؤَى، وَهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلْفَتْوَى، فَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ: أَيُعَبِّرُ الرُّؤْيَا كُلُّ أَحَدٍ؟ فَقَالَ: « أَبِالنُّبُوَّةِ يُلْعَبُ ».
ألا وصلوا وسلموا على من أمركم الله تعالى بالصلاة والسلام عليه نبيكم ورسولكم محمد، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واهزِم أعداءَكَ، وانصُر عِبَادَكَ المسلِمينَ، واكفنا شَرَّ المُعتَدِين، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمرِنَا خادمَ الحَرَمَينِ الشَّرِيفَينِ، وَوَلِيَّ عَهدِهِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرضَى، اللَّهُمَّ احفظهم بحفظِك، وعافِهِم بعافيتك، وأَيِّدهم بتأييدك، اللَّهُمَّ كُن لَهُم مُعِينًا وَنَصِيرًا وَمُؤَيِّدًا وَظَهِيرًا، وارزقهم البِطَانَةَ الصالِحَةَ الناصحةَ، وَأَصلِحَ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وولاةَ أمورِ المسلمين، اللَّهُمَّ احفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ، اللهم إنا نعوذ بك مِن الغلاءِ والبلاءِ والوباءِ والربا والفِتنِ والفواحشَ ما ظهر منها وما بطن، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ووالدينا وأهلينا والمسلمين والمسلمات. عباد الله: اذكروا اللهَ العظيمَ يَذكُركُم، واشكُرُوه على نِعَمِه يَزِدكُم، وَلَذِكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يَعلَمُ ما تَصنَعُونَ.