« العقيدة الصحيحة : ثبات وتحديات »
محمد بن سليمان المهوس / جامع الحمادي بالدمام
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا تَعَالَى اللهَ حَقَّ التَّقْوَى ، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب :70 – 77 ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: عَالَمُنَا الْيَوْمَ بَحْرٌ هَائِجٌ مِنَ الْعَقَائِدِ وَالْفَلْسَفَاتِ؛ آلَافٌ مِنَ الأَدْيَانِ وَالْمِلَلِ ، وَتَحْتَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مِئَاتٌ مِنَ الْفِرَقِ وَالْمَذَاهِبِ وَالنِّحَلِ، زَبَدٌ طَاغٍ، وَظَلاَمٌ كَثِيفٌ ؛ يَسْطَعُ مِنْ بَيْنِ هَذَا وَهَذَا نُورٌ مُبِينٌ ،وَمِشْكَاةٌ وَهَّاجَةٌ هِيَ :
الْعَقِيدَةُ النَّاصِعَةُ الْمُتْلأْلِئَةُ الَّتِي تُنَادِي فِي النَّاسِ أَجْمَعِينَ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [ البقرة : 21 ] لِيَعُودُ النَّاسُ إِلَيْهَا ، وَيَعُضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّواجِذِ لِيَنْعَمُوا بِالسَّعَادَةِ التَّامَّةِ وَالأَمْنِ الْوَارِفِ.
فَالْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ أَصْلُ الدِّينِ وَأَسَاسُهُ ، وَأَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ الأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ وَأَكْثَرُ مَا بَيَّنُوهُ ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
وَهِيَ أَسَاسُ سَلاَمَةِ الْقَلْبِ، وَزَكَاءِ النَّفْسِ وَانْشِرَاحِ الصَّدْرِ ؛ بِهَا يَصِحُّ الْعَمَلُ ، وَيَثْبُتُ الأَجْرُ، وَيَتَضَاعَفُ الثَّوَابُ.
فَكُلُّ خَيْرٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ أَوْ أُخْرَوِيٍّ فَهُوَ مِنْ آثَارِ صَلاَحِ الْعَقِيدَةِ، وَاسْتِقَامَتِهَا ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]
فَالْعَقِيدَةُ السَّلِيمَةُ حِصْنُ اللهِ الْحَصِينُ الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ مِنَ الآمِنِينَ ، وَفُرْقَانٌ مُبِيِنٌ يُمَيِّزُ بِهِ الْعَبْدُ بَيْنَ الْعَمَلِ الصَّحِيحِ الْقَائِمِ عَلَى دَلِيلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا جَاءَ عَنْ سَلَفِ الأُمَّةِ وَبَيْنَ الأَفْكَارِ الدَّخِيلَةِ وَالأَعْمَالِ الْبِدْعِيَّةِ الْبَاطِلَةِ، وَهَذَا مِنْ أَهْمِّ أَسْبَابِ تَحْقِيقِ الأَمْنِ لِلْفَرْدِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الحديد: 28].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الأَفْرَادُ هُمْ أَسَاسُ الْمُجْتَمَعَاتِ؛ فَإِذَا صَلَحَ حَالُ الأَفْرَادَ صَلَحَ حَالُ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَبِالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ تَنْعَمُ حَيَاةُ الْمُجْتَمَعَاتِ فِي جَمِيعِ الْمَجَالاَتِ.
فَالْعَقِيدَةُ تَحُلُّ بِالْمُجْتَمَعَاتِ مَحَلَّ الْقَلْبِ بِالْجَسَدِ؛ فَإِنَّ أَفْرَادَهَا إِذَا اعْتَقَدُوا عَقِيدَةً رَاسِخَةً فِي أَفْئِدَتِهِمْ فَسَوْفَ يَتَحَقُّقُ لَهُمُ الأَمْنُ ؛ فَالأَمْنُ وَالإِيمَانُ أَمْرَانِ مُتَلاَزِمَانِ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]، فَلاَ ضَمَانَ لِحُصُولِ السَّلاَمِ وَالرَّخَاءِ إِلاَّ تَحْتَ ظِلاَلِ الْعَقِيدَةِ الصَّالِحَةِ، وَإِذَا فُقِدَ هَذَا فُقِدَ هَذَا ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
[غافر: 22].
اَللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ اَلْقُلُوبَ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِيِنِكَ، اَللَّهُمَّ ثَبَّتَنَا عَلَى اَلتَّوْحِيدِ وَالسُّنَّةِ يَا رَبَّ اَلْعَالَمَيْنِ .
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : اتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا وَاقِعَكُمْ الَّذِي تَعِيشُونَهُ وَالَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ مُكَدِّرَاتُ صَفْوِ الاِعْتِقَادِ الصَّحِيِحِ، وَتَكَالُبُ الأَعْدَاءُ، مَعَ الْوَسَائِلِ الْعَدِيدَةِ ، وَالأَسَالِيبِ الْمُتَنَوِّعَةِ، فِيِ بَثِّ الشُّكُوكِ لَيْلَ نَهَارَ فِي عَقِيدَتِهِمْ؛ اسْتَعْمَلُوا كُلَّ الْوَسَائِلِ مَسْمُوعَةً وَمَقْرُوءَةً وَمَرْئِيَّةً، قَنَوَاتٌ فَضَائِيَّةٌ وَمَوَاقِعُ شَبَكِيَّةٌ، وَسَائِلُ تَوَاصُلٍ، كُتُبٌ وَرِوَايَاتٌ وَمَجَلاَّتٌ، أَفْلاَمٌ وَثَائِقِيَّةٌ وَأَفْلاَمٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، بَلْ حَتَّى بَعْضُ الأَلْعَابِ الإِلِكْتُرُونِيَّةِ لَمْ تَسْلَمْ مِنْ بَثِّ الشُّكُوكِ الْعَقَدِيَّةِ .
وَسَائِلُ تَمَيَّزَتْ بِالتَّنَوُّعِ وَالْكَثْرَةِ وَالْجِدَّةِ وَالْجَاذِبِيَّةِ، وَهَذَا مَا يَتَضَاعَفُ مَعَهُ التَّأْثِيرُ ؛ ثُمَّ الطَّرْحُ الْيَوْمَ يُخَاطِبُ جَمِيعَ الشَّرَائِحِ، فَهُوَ يُحْسِنُ مُخَاطَبَةَ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، الذُّكُورِ وَالإِنَاثِ، وَيَتَحَدَّثُ بِجَمِيعِ اللُّغَاتِ، وَلِذَا فَمَسَاحَةُ التَّأْثِيرِ عَظِيمَةٌ، نَاهِيكَ عَنْ حَرَكَةِ التَّرْجَمَةِ لِمُخْرَجَاتِ التَّيَّارَاتِ الضَّالَّةِ قَوِيَّةٌ
وَالتَّحَدِّي الأَكْبَرُ أَمَامَنَا أَنْ نُحَافِظَ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ فِي أَنْفُسِنَا وَأَهْلِينَا وَمُجْتَمَعَاتِنَا، وَأَنْ نَثْبُتَ عَلَيْهَا إِلَى النَّفَسِ الأَخِيرِ فِي حَيَاتِنَا، فَإِنَّنَا إِنْ فَعَلْنَا وَاللهِ أَفْلَحْنَا وَإِلاَّ فَالضَّيَاعُ وَالْهَلاَكُ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رواه مسلم].