الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70، 71 ].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مضى من شهر رمضان أكثره ، وبقي منه تاجه وأفضله ، العشر المباركة : فرصة للعمل ، وتعويض ما فات من نقص وخلل ؛نزل القرآن الكريم فيها ، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر : 6]. وقال عز وجل: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ﴾ [الدخان: 3] فيها ليلة يقَدِّرُ اللهُ سبحانه وتعالى فيها كُلَّ ما هو كائنٌ في السَّنَةِ ؛ قال تعالى: ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ﴾ [الدخان: 4-5]
ليلةٌ مُبارَكة عظيمة من حرم خيرها فقد حرم ، اختارها الله تعالى لبدء تنزيل القرآن،
العبادةُ فيها تَفضُلُ العبادةَ في ألفِ شَهرٍ ، قال تعالى: ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3] ينزِلُ فيها جبريلُ والملائكةُ بالخَيرِ والبَرَكةِ ، قال تعالى: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4] هي سلامٌ كُلُّها ، خاليةٌ مِنَ الشَّرِّ والأذى ، تكثُرُ فيها الطَّاعاتُ وأعمالُ الخَيرِ والبِرِّ والقربات ، وتكثُرُ فيها السَّلامةُ مِنَ العذابِ؛ ، قال تعالى: ﴿ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5]
يُشرَعُ في هذه الليلةِ الشَّريفةِ قيامُ لَيلِها بالصَّلاة ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: « مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» [ متفق عليه ] وَيُشرَعُ الدُّعاءُ فيها والتقَرُّبُ به إلى اللهِ تبارك وتعالى ؛ وَعَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّه عنْهَا - قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِن عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: « قُولي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العفْوَ فاعْفُ عنِّي » [رواه الترمذي ، وصححه الألباني ]
ليلةُ القَدْرِ في العَشْرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ، وهي في الأوتارِ أقرَبُ مِنَ الأشفاعِ ؛ فعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((تَحَرَّوْا ليلةَ القَدْرِ في الوِترِ مِنَ العَشرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ » [ متفق عليه ] وَعَنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((التَمِسُوها في العَشرِ الأواخِرِ مِن رمضانَ، ليلةُ القَدْرِ في تاسعةٍ تبقى، في سابعةٍ تبقى، في خامسةٍ تبقى» [ رواه البخاري ] وهي لا تختَصُّ ليلةُ القَدرِ بليلةٍ مُعَيَّنةٍ في جميعِ الأعوامِ، بل تتنقَّلُ في ليالي العَشْرِ الأواخِرِ مِن رَمَضانَ ، وهي موجودةٌ لم تُرفَعْ، وباقيةٌ إلى يومِ القِيامة ، ومن علاماتِ ليلةِ القَدرِ أنَّ الشَّمسَ تطلُعُ في صبيحَتِها صافيةً، ليس لها شُعاعٌ ؛
كما في صحيح مسلم عن أبَيِّ بنِ كَعبٍ رَضِيَ اللهُ عنه – أنه قال : "وأمارَتُها أن تطلُعَ الشَّمسُ في صبيحةِ يَومِها بيضاءَ لا شُعاعَ لها "
فاتقوا الله – عباد الله - واغتنموا هذه الفرصة العظيمة، فوالله لا يدري أحدنا هل يدركها مرة أخرى أم لا ؛ مع أن الإقبال على طاعة الله والتقرب إليه مطلوب في كل حال، ولكنه في العشر الأخيرة من رمضان أعظم فضلاً وأكثر أجرًا ؛ ولنا في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيرُ أسوةٍ وقدوة ، فَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ وَأَحْيَا لَيْلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ،وَكَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ ؛ كما حدّثت بذلك أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها -اللهم يسّر لنا الأمور ، واشرحْ لنا الصُّدور ، وزدْنا هُدىً وسداداً ، وفلاحاً ورشاداً ياربَّ العالمين ، أَقُولُ قَوْلِيِ هَذَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمِ .
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ الاعتكاف مِن السُّننِ المؤكدةِ في هذه العشرِ ، جاء ذكره الله في كتاب الله تعالى بقوله : وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) [ البقرة : 187] وحافظ عليه المصطفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يتركه حتى مات ،وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأزواجه وأصحابه يعتكفون في هذه العشرَ ؛ تفرغا للعبادة ، وانقطاعا عن الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فمن تيسّرت له هذه السُّنةُ فلا يَحْرِمْ نفسَه من هذه السُّنّةِ المحمديّة ؛ فإنَّها بَلسمٌ للقلوب ودواءٌ لآفاتها، فإنْ لمْ يتيسرْ له اعتكافَ العَشرِ فلْيعتكفْ بعضَ الأيام، ولو لليلة ، فمن دخلَ المسجد قبل المغرب وخرج بعد الفجر كُتِبَ له اعتكافُ ليلةٍ .
فاتَّقُوا اللهَ - عباد الله - وأنِيبُوا إليه، وأخْلِصُوا لهُ، ولازِمُوا التوبةَ والاستغفار، واشكروا الله الذي هداكم للإيمان ، وبلّغكم شهرَ الصيام ، وأعانَكم على صيامه وقيامه، واغتنموا هذه العشرَ الأواخرَ بالاجتهادِ في العبادة متأسّينَ بِرسولكم - صلّى الله عليه وسلم - وأصحابه من بعده، لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم].
المفضلات