الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُـحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا..
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَهَمِّ مَا يَطْمَحُ إِلَيْهِ الإِنْسَانُ فِي دُنْيَاهُ، وَمِنْ أَعَزِّ الأُمْنِيَّاتِ عَلَى قَلْبِهِ، وَأَجْمَلِ الرَّغَبَاتِ فِي نَفْسِهِ: أَنْ يَرْزُقَهُ اللهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً صَالِحَةً؛ وَقَدْ وَصَفَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عِبَادَهُ بِأَنَّهُمْ يَدْعُونَهُ أَنْ يَهَبَ لَهُمْ ذُرِّيَّةً نَقِيَّةً صَالِحَةً تُسْعِدُهُمْ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} فَصَلاَحُهُمْ سَعَادَةٌ، وَمِنَّةٌ مِنَ اللهِ وَقُرْبَةٌ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-. فَالْمُسْلِمُ النَّاصِحُ، وَالأَبُ الْمُشْفِقُ: هُوَ مَنْ يَحْرِصُ عَلَى أَمَانَةِ التَّرْبِيَةِ لأَوْلاَدِهِ! فَهُوَ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ...» الْحَدِيثُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ، حَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ، حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَصِيَّةَ وَتَأْكِيدَ الْمَسْئُولِيَّةِ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ وَلأَمْرٍ مُهِمٍّ ! وَلِذَلِكَ نَجِدُ أَنْبِيَاءَ اللهِ تَعَالَى تَمَثَّلُوا الْقِيَامَ بِحَقِّ أَبْنَائِهِمْ أَحْسَنَ قِيَامٍ خُصُوصًا فِي أَمْرِ الدِّينِ وَالْعَقِيدَةِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
فَمِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ: إِنْقَاذُ الأَبْنَاءِ مِنَ النَّارِ، وَخُصُوصًا فِي جَانِبِ الْعَقِيدَةِ؛ فَغَرْسُ الاعْتِقَادِ السَّلِيمِ ، وَالإِيمَانِ بِاللهِ فِي نُفُوسِ الأَبْنَاءِ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ! وَهُوَ فَاتِحَةُ كُلِّ خَيْرٍ، وَأَسَاسُ كُلِّ طَاعَةٍ وَبِرٍّ، وَهُوَ أَصْلٌ أَصِيلٌ فِي اسْتِقَامَةِ الأَبْنَاءِ، وَلَنَا فِي رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؛ فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَنِي بِهَذَا الْجَانِبِ فَهَا هُوَ يُوَجِّهُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَيُبَيِّنُ لَهُ، وَهُوَ غُلاَمٌ صَغِيرُ السِّنِّ، وَيَقُولُ لَهُ: «يا غُلامُ إنِّي أعلِّمُكُ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تِجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
فَامْتِلاَءُ الْقَلْبِ عُبُودِيَّةً للهِ، وَتَحْقِيقُ الإِخْلَاصِ لَهُ، وَغَرْسُ ذَلِكَ فِي الأَبْنَاءِ هُوَ مِنْ تَعْظِيمِ اللهِ فِي نُفُوسِهِمْ، وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى الْخَيْرِ، وَهُوَ مَنَفْعَةٌ لِلْعِبَادِ آبَاءً وَأَوْلاَدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَإِهْمَالُ جَانِبِ الْعَقِيدَةِ فِي التَّرْبِيَةِ -عِبَادَ اللهِ- قَدْ يُخَرِّجُ جِيلاً لاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ رَبًّا، أَوْ يَرَى حُرِّيَّةَ التَّدَيُّنِ وَالاِنْسِلاَخِ مِنْ دِينِ الإِسْلاَمِ، أَوْ يَخْرُجُ مَنْ يُكَذِّبُ بِالْخَالِقِ أَوِ الْبَعْثِ أَوِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ؛ وَهَذَا إِلْحَادٌ بِاللهِ تَعَالَى وَكُفْرٌ بِهِ. وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا التَّنَبُّهُ لِهَذَا الْخَطَرِ الَّذِي يَنْتَشِرُ عَبْرَ وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ الاِجْتِمَاعِيِّ، أَوِ الْقَنَوَاتِ الْفَضَائِيَّةِ، وَالْمَوَاقِعِ الإِلِكْتُرُونِيَّةِ ، وَالْمَقَاهِي اللَّيْلِيَّةِ الْمُغْلَقَةِ، وَيَصِلُ لأَبْنَاءِ الْمُسْلِمِينَ! لِتَغْيِيرِ فِطَرِهِمْ، وَطَمْسِ إِسْلاَمِهِمْ، وَاللهُ تَعَالَى قَالَ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}، وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ: «إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَوْلُهُ: «حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ» أَيْ: مُسْلِمِينَ، مُوَحِّدِينَ، مُسْتَقِيمِينَ، مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْحَقِّ؛ لأَنَّ ذَلِكَ هُوَ مُقْتَضَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَهُمْ عَلَيْهَا.
وَقَوْلُهُ: «فَاجْتَالَتْهُمْ» أَيْ أَنَّ الشَّيَاطِينَ لَهَا دَوْرٌ فِي مَسْخِ الْفِطْرَةِ، وَتَشْوِيهِهَا، وَانْحِرَافِهَا! فَإِذَا طَرَأَ عَلَى الْفِطْرَةِ مَا يَصْرِفُهَا عَنِ الصَّوَابِ وَالْحَقِّ، فَإِنَّهَا تَحْتَاجُ إِلَى مَا يُصَحِّحُ لَهَا مَسَارَهَا، وَيَرُدُّهَا عَنِ الاِنْحِرَافِ؛ وَهَذِهِ مُهِمَّةُ الأَنْبِيَاءِ، وَبِهَا يَقْتَدِي الآبَاءُ فِي تَوْجِيهِ الأَبْنَاءِ.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذُرِّيَاتِنَا، وَوَفِّقْهُمْ لِطَاعَتِكَ، وَاحْفَظْهُمْ بِحِفْظِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .. أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى؛ فَتَقْوَى الآبَاءِ لَهَا تَأْثِيرٌ بِحِفْظِ الأَبْنَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا}.
قَالَ الإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ -رَحِمَهُ اللهُ-: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَيَحْفَظُ بِحِفْظِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ، وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَدُوَيْرَتَهُ الَّتِي فِيهَا، وَالدُّوَيْرَاتِ حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظٍ مِنَ اللهِ وَسَتْرٍ».
وَقَدْ يُبْتَلَى الرَّجُلُ الصَّالِحُ بِوَلَدٍ يَنْحَرِفُ عَنِ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ؛ فَعَلَيْهِ بِبَذْلِ أَسْبَابِ صَلاَحِهِ مِنْ نُصْحٍ وَإِرْشَادٍ، وَدُعَاءِ رَبِّ الْعِبَادِ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، فَالأَمْرُ جِدُّ خَطِيرٍ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
المفضلات