الخطبة الأولى : أكلة النار
الحمد لله الجواد الكريم، الغني الحميد؛ ﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الشورى: 12] نحمده ونشكره، ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ خلق الأرض وما عليها، وسخر للبشر خيراتها، وفجر لهم كنوزها ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29] وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ دعا ربه سبحانه أن يكون رزق آل محمد قوتاً، ولم يدخر من أودية المال شيئاً، فكان ينفقها في سبيل الله تعالى ويبيت طاويا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأنقذوا أنفسكم، واستبرئوا لدينكم باجتناب ما تشابه عليكم، واتركوا ما تظنون به بأسا إلى ما لا بأس فيه؛ فإن «الحَلاَلَ بَيِّنٌ، وَالحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ» رواه البخاري.
أيها الناس:
فتنة المال من أعظم الفتن التي يفتن الناس بها، وقد ورد في الحديث أن فتنة النساء أضر الفتن على الرجال، ولكن المال يأتي بالنساء،والمال يذلل أعناق الرجال، ويُوَطِئُ أكنافهم، ويحرفهم عن مبادئهم، ويغير أخلاقهم.
والمال عز لأصحابه؛ تشترى به المواقف، ويُكثر به الأتباع، وتوطأ به الأعقاب، وتنال به جميلات النساء. وتتوجه بوصلة السياسة حيث يوجد المال، وتمويل الحملات الانتخابية في الدول الديمقراطية، وتغيير الولاءات في الدول والأحزاب والأفراد إنما كان بسبب أموال تضخ لإنجاح أناس وإسقاط آخرين. بل حتى الأمن في الأرض صار سلعة تدار بالمال، وهذا يبين أهمية المال للأفراد والدول، وأنه من الفتن العظيمة التي يسعى أكثر الناس في طلبها، وبعضهم يبذل عرضه وكرامته دونها، ومنهم من يبيع دينه وإيمانه لأجلها، وصدق الله العظيم حين قال في محكم التنزيل ﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ [التغابن: 15] وفي آية أخرى ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 46] ولم يذكر النساء في الآيتين مع أنهن أجمل شيء يتمتع به الرجال؛ وذلك لأن المال يأتي بهن، ولا يأتي المال بالبنين، كما لا تأتي النساء بالمال.
ولما كانت فتنة المال تأخذ بقلوب الناس هذا المأخذ، وتؤثر في أحوال الأفراد والدول والأمم هذا التأثير؛ كان أكثر سعي البشر وعملهم وجدهم في تحصيل المال، وفي جمع المال أنفقوا أكثر أوقاتهم وأعمارهم، وهو أكبر ما يشغل تفكيرهم، ويسيطر على أذهانهم. وأكثر الحروب تسعر لأجل الاستزادة من المال إما لأجل عقد صفقات ضخمة للتسلح، وإما لغرض الاستيلاء على أراض مملوءة بالكنوز والثروات. وفي الفكر الرأسمالي يُضحى بالملايين من البشر لأجل المال، ولا يضحى بالمال لأجل البشر.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم شدة افتتان هذه الأمة بالمال فقال عليه الصلاة والسلام:"إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ" رواه الترمذي وصححه، وفي حديث آخر عند ابن حبان قال عليه الصلاة والسلام " أَلَا إِنَّ الدِّينَارَ وَالدِّرْهَمَ أَهْلَكَا مَنْ كَانَ قبلكم وهما مهلكاكم".
وهلاك هذه الأمة بسبب المال يعني: أن الورع يقل فيهم، ويكثر فيهم اقتحام المتشابه من المال، ثم الولوج إلى الحرام، وخاصة في آخر الزمان؛ كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ، لاَ يُبَالِي المَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ، أَمِنَ الحَلاَلِ أَمْ مِنَ الحَرَامِ» رواه البخاري.
ولذا كان في السلامة من أكل المال الحرام سلامة من النار، وكلما كثر مال العبد كان على خطر من الوقوع في الحرام بقصد حفظ ماله وتنميته، وانفتاح شهيته للاستزادة منه؛ وقد قال النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلَكَ الْمُكْثِرُونَ، إِنَّ الْمُكْثِرِينَ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا " وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. رواه أحمد.
إن من يأكل مالا حراما فإنما يأكل نارا، ومن يطعم أهله وولده حراما فقد غشهم وما نصح لهم، وفي الحديث "إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ" وفي رواية: " إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ».
ومجالات أكل النار كثيرة؛ ابتلاء من الله تعالى للبشر:
فأكل مال الضعفة من النساء واليتامى، واستحلال مواريثهم، ومنعهم حقوقهم طريق إلى النار ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا ﴾ [النساء: 10]. ومن السبع الموبقات أكل مال اليتيم.
ومن أكل النار:
بيع شيء من الدين بكتمانه أو إباحة محرم أو إسقاط واجب لأجل شيء من الدنيا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 174].
ومن أكل النار:
التعامل بالربا ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [آل عمران: 130 - 132] وهو حرب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى لمن لم يتوبوا من الربا ﴿ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 279].
وآكل الربا يعذب بعد موته عذابا شديدا؛ ففي حديث الرؤيا قال النبي صلى الله عليه وسلم «فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا» وفي آخر الحديث قال: « وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الحَجَرَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا» رواه البخاري. ويبعث آكل الربا من قبره كالمجنون يتخبط، قد أثقل بطنه ما أكل من الربا ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ﴾ [البقرة: 275].
ومن أكل النار:أخذ الرشوة، فيمنع صاحب الحق حقه إلا بأن يرشيه، وهي السحت الذي ذم الله تعالى أهل الكتاب عليه فقال سبحانه ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ [المائدة: 42] وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به، و"لَعَنَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلم الراشِيَ والمُرْتَشِيَ" رواه أبو داود.
ومن أكل النار:
التخوض في المال العام بلا حق، قَالَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه البخاري.
وفي مجاهد مات شهيدا في المعركة فقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ المَغَانِمِ، لَمْ تُصِبْهَا المَقَاسِمُ، لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا» فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: هَذَا شَيْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» متفق عليه. وفي حديث آخر قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَلَا تَغُلُّوا؛ فَإِنَّ الْغُلُولَ نَارٌ وَعَارٌ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" رواه أحمد.
وما كان هذا التشديد في المال العام إلا لأن حقوق مجموع الناس متعلقة به، وكلما كثروا كثر الإثم، ولأن التخوض فيه بغير حق بوابة الفساد، وسبب الكساد، ومهما عظمت الموارد فإن التخوض في المال العام يقضي عليها، ويمحق بركتها.
ومن أكل النار:
الغش في البيع والشراء ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [المطففين: 1 - 6].
فعلى المستبرئ لدينه وعرضه أن يجانب المشتبه من المال والمعاملات، فضلا عن المحرم الصريح منها، حتى يلقى الله تعالى وهو خفيف الظهر من الأموال المحرمة.
نسأل الله تعالى أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، كما نسأله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، إنه سميع قريب مجيب ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم .
الخطبة الثانية : عدل النبي عليه الصلاة والسلام .
الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأستغفره وأستهديه ، وأومن به ولا أكفره،وأعادي من يكفر به ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحقّ والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرّسل ، وقلّة من العلم وضلالة من النّاس وانقطاع من الزّمان، ودنوّ من السّاعة ، وقرب من الأجل.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى وفرّط وضلّ ضلالا بعيدا .وإنّ خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله ، واحذروا ما حذّركم الله من نفسه فإنّ تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربّه ، عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة .
أمّا بعد عباد الله ،
ففي باب "الغضب إذا انتهكت حرمات الشرع" أورد المصنف -رحمه الله- حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "أن قريشاً أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، فكلمه أسامة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أتشفع في حد من حدود الله؟)، ثم قام فاختطب ثم قال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يداها)
متفق عليه.
هذه المرأة جاء في بعض الروايات: أنها كانت تستعير المتاع، وتجحده([2])، وبعضهم يقول: إن اسمها فاطمة بنت أبي الأسد المخزومية، وبعضهم يقول: هي أم عمرو بنت سفيان بن عبد الأسد المخزومية، ومثل هذا لا حاجة إليه، ومن شأنه أن يُستر، فهي امرأة شريفة، قرشية من بني مخزوم، فهؤلاء من قريش كرهوا أن تقطع يدها، أهمهم شأنها، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟، يعني: من يشفع لها؟، "فقالوا: من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ -رسول الله صلى الله عليه وسلم-، حِبُّه أي أنه محبوب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يحبه، "فكلمه أسامة"، فيه حذف واختصار بمعنى أنهم كلموا أسامة وطلبوا منه أن يشفع، فكلم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أتشفع في حد من حدود الله؟)، ثم قام فاختطب، يعني: قام فخطب.
القضايا التي تتعلق بالحدود قبل أن تصل إلى الإمام لا بأس إذا احتمل المقام أن تُستر، ولا بأس أن يُشفع فيها قبل أن تصل إلى الإمام أو نائبه إذا قبضوا قضية فيها حد خمر، أو زنى هل للشفاعة هنا مجال أو لا؟
الإمام هو الحاكم، فإذا أناب أحداً لإقامة الحدود أو نحو ذلك فإذا بلغته فلا مجال للشفاعة.
وبناء على ذلك يقال: يمكن الشفاعة في هذا قبل أن تصل إلى الإمام أو نائبه، إذا احتمل المقام ذلك، كأن يكون هذا الإنسان وقع في هذه الخطيئة لأول مرة، ونادم، ومتأثر جدًّا، ولما قُبض عليه أو هذه المرأة أصابها انهيار، وإذا وصلت القضية إلى الإمام ثم أقيم عليها الحد قد يقتلها أقاربها، قد تحصل أمور ومضاعفات أخرى فهل هنا في مجال يقال: هذه المرأة قد تابت وندمت، وانهارت، وتظهر صحة توبتها، وأنها ليست متمرسة في هذا الجانب، هل هناك مجال للشفاعة عند الهيئة بمثل هذا؟
إنسان سرق فشُفع فيه، وقيل: الحق الخاص يؤدى، ونُكلم أصحاب الحق الخاص، ولا داعِيَ إلى رفع القضية إلى المحكمة، هل هناك مجال؟ إذا قلنا: إن الهيئة ليست جهة مخولة للتنفيذ فلا تكون بمنزلة الإمام، لكن إذا وصلت إلى القاضي فالقاضي هو الذي يحكم، فهو نائب عن الإمام في هذا، وعندئذ إذا وصلت القضية إلى القاضي فلا تجوز الشفاعة في أمر يتعلق بالحدود، فيما فيه حد، أما ما فيه تعزير فتجوز الشفاعة حتى عند القاضي، قضية تعزيرية ما فيها حد، أو ما يُسمى الآن بالحق العام، فيذهب الإنسان إلى هيئة الادعاء، ويكلمهم ويشفع في شخص ويقول: ليس من المصلحة أن يُسجن، السجن سيؤدي به إلى أن يتعرف على أنواع الجرائم، وهذا جديد، لأول مرة يقع له هذا، ونادم، وظهر لنا أنه صادق في توبته، هذا لا إشكال فيه إذا كانت المسألة ليس فيها حد.
إذن الشفاعة لا تجوز في الحدود إذا بلغت الإمام، أو بلغت نائبه، أما ما قبل ذلك فلا بأس، إذا كان المقام يقتضي هذا، يعني: ليست القضية محاباة لأحد، قد يكون الإنسان هذا متمرسًا في الفساد، هنا يقال: لا مجال، ولهذا أحياناً أهل الحسبة يسألون عن الحالات التي تستدعي الستر والحالات التي لا تستدعي، لو كانوا هم بمنزلة الإمام لما حُق لهم أن يُسقطوا شيئاً، لكنهم يسترون غالب القضايا، إذا رأوا المصلحة في ذلك، فهنا قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أتشفع في حد من حدود الله؟)، وهو حد السرقة.
نسأل الله العليّ الوكيل أن يحفظنا من الحرام والحرمات وأن ييسّر لنا جميعا في الجنّة أعلى الدرجات بحق المصطفى الحبيب عليه الصلاة والسلام.
المفضلات