خطبة جمعة
بعنوان
( إنهض للعمل )
عبدالله فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الخطبةُ الأولى
إخوةَ الإسلامِ
إنَّ دينَ الإسلامِ دينٌ كاملٌ ، شملَ نواحي الحياةِ كلِّها ، شريعةٌ سمحةٌ ، وملةٌ حنيفيةٌ ، ودينٌ وسطٌ ، جمعَ بينَ العبادةِ والعملِ ، لم يكنْ الدينُ يوماً ما حائلاً بينَ العبدِ وعملِهِ ، كما لم يكنْ العملُ حائلاً بينَ العبدِ وعبادتِهِ ، هذا الدينُ العظيمُ حثَّ المجتمعَ على التكسبِ وطلبِ الرزقِ، وبيَّنَ لهم من خلالِ نصوصِهِ الطاهرةِ أنَّ الكسبَ باليدِ هوَ خيرُ الكسبِ ، وهو سبيلُ أنبياءِ اللهِ عليهم الصلاةُ والسلامُ لكسبِ أرزاقِهِم ، وهو الطريقُ الصحيحُ إلى الحصولِ على لقمةِ العيشِ ، لم يكنْ الدينُ يوماً ما ، يدعوا إلى الكسلِ والتماوتِ واليأسِ والقنوطِ أو الإعتمادِ على التسولِ ، واستجداءِ الناسِ ، والتذللِ لهم ؛ لأنَّ هذا السبيلَ يورثُ المذلةَ والمهانةَ في الدنيا والآخرةِ.
فعن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ : ((والذي نفسي بيدِهِ، لأَنْ يأخذَ أحدُكُم حبلَهُ، فيحتطبُ على ظهرهِ ، فيأتي به فيبيعُهُ ، فيأكلُ منهُ ويتصدقُ منهُ ، خيرٌ لهُ من أنْ يأتيَ رجلاً أعطاهُ اللهُ منْ فضلِهِ فيسألُهُ ، أعطاهُ أو منعَهُ)) متفقٌ عليه ، وعن ابنِ عمرَ رضي اللهُ عنهما قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ (( لا تزالُ المسألةُ بأحدِكم حتى يلقىَ اللهَ وليسَ في وجهِهِ مزعةُ لحمٍ )) رواه البخاري ومسلم.
ومِنْ فضلِ اللهِ تعالى أنْ وفَّقَت شريعةُ اللهِ بينَ أوقاتِ العبادةِ وأوقاتِ العملِ فأمرَ اللهُ تعالى المؤمنينَ بتركِ البيعِ والشراءِ والتجارةِ ساعةَ أداءِ العبادةِ المفروضةِ عليهم ، وذمَّ مَنْ يشتغلُ بالتكسبِ في ذلكَ الوقتِ ، وأذِنَ لهم بالانتشارِ وطلبِ الرزقِ بعدَ أدائِها ، قالَ تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [الجمعة:9].
ثم قال تعالى ( فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ) [الجمعة:10]
نُقل عن عِراك بنِ مالكٍ رحمهُ اللهُ ـ وهو من أعلامِ التابعينَ ـ أنهُ كانَ إذا صلى الجمعةَ انصرفَ فوقفَ على بابِ المسجدِ فقالَ : اللهُمَّ إني أجبتُ دعوتَكَ ، وصليتُ فريضتَكَ ، وانتشرتُ كما أمرتني ، فارزقني من فضلِكَ وأنتَ خيرُ الرازقين .
كسبُ العيشِ أيها المسلمون : كانَ دأبُ الأنبياءِ عليهم الصلاةُ والسلامُ ، قالَ تعالى ( وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ ) [الفرقان:20].
قال ابنُ كثيرٍ رحمهُ اللهُ : "يقولُ تعالى مخبرًا عن جميعِ مَنْ بعثهُ مِنَ الرسلِ المتقدمينَ أنهم كانوا يأكلونَ الطعامَ ويحتاجونَ إلى التغذي بهِ ، ويمشونَ في الأسواقِ للتكسُّبِ والتجارةِ ، وليسَ ذلكَ بمنافٍ لحالِهم ومنصِبِهم " انتهى كلامُه رحمه الله تعالى.
وقد أخبرَ اللهُ عنْ داودَ عليهِ السلامُ بقولِهِ ( وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ) [الأنبياء:80]، والمرادُ باللبوسِ هنا الدروعَ ، وقد أخبرَ اللهُ تعالى عن نبيِّهِ داودَ عليهِ السلامُ أنهُ كانَ يصنعُ الدروعَ ، وكانَ يأكلُ مِنْ عملِ يدِهِ ، وكانَ آدمُ حَرّاثًا ، ونوحٌ نجارًا ، ولقمانُ خياطًا ، وطالوتُ دباغًا ، وقيل: سقّاء ، فالصنعةُ سببُ رزقٍ يكفُّ بِها الإنسانُ نفسَهُ عن الناسِ , وقدْ وردَ في صحيحِ مسلمٍ عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ قال: ((كانَ زكريا نجارًا)). قال الإمامُ النوويُّ : " فيه جوازُ الصنائعِ ، وأنَّ النجارةَ لا تُسقطُ المروءةَ ، وأنها صنعةٌ فاضلةٌ ".
وعن المقدامِ بن معدي كرب قالَ : قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ : ((ما أكل أحدٌ طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكل من عملِ يدِهِ ، وإنّ نبيَّ اللهِ داودَ كان يأكلُ من عملِ يدِهِ )) رواه البخاري.
وداودُ عليه السلام ، كانَ خليفةَ اللهِ في الأرضِ ، فاقتصارُهُ في أكلِهِ على ما يعملُهُ بيدِهِ ، لم يكنْ من الحاجةِ ، وإنما ابتغى الأكلَ من طريقٍ أفضلَ .
ولقد رعى الأنبياءُ جميعاً الغنمَ عليهم صلواتُ اللهِ وسلامُهُ ، ففي صحيحِ البخاريِّ أنَّ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قال: ((ما بعثَ اللهُ نبيًا إلا رعى الغنمَ))، فقالَ أصحابُهُ: وأنتَ يا رسولَ اللهِ؟ فقالَ (( نعمْ ، كنتُ أرعاهَا على قراريطَ لأهلِ مكةَ )).
ولقدْ كانَ كبارُ أصحابِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ يحترفونَ بأيديهِمْ ، وعلى رأسِهِم الخليفةُ الأولُ أبو بكرٍ الصديقُ رضيَ اللهُ عنهُ . كانوا يتاجرونَ وهم فقراءَ ، فيغنيَهُمُ اللهُ من فضلِهِ ، لأنهم يعلمونَ أنَّ سعيَهُم سببٌ يتحققُ من خلالِهِ مرادُهُم ، ( وأنَّ الفضلَ بيدِ اللهِ يؤتيهِ من يشاءُ والله ذو الفضلِ العظيم ِ )
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين
وتاب على وعليكم وعلى سائر المسلمين من كل ذنب
فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
الثانية
يتضحُ من كلِّ ما تقدمَ تأكيدُ الشريعةِ الإسلاميةِ على أهميةِ العملِ والاكتسابِ ، واللهُ تعالى قدْ قدَّرَ الأرزاقَ وكتبَهَا ، وعلى المرءِ أنْ يأخذَ بجميعِ الأسبابِ الممكنةِ لتحصيلِ الرزقِ وجمعِهِ ، وأنْ لا يبقى خاملاً في البيت أو الإستراحة ينتظرُ رزقَهُ ، فإنَّ اللهَ تعالى أمرَ بالسعيِ في الأرضِ والتنقلِ بينَ أرجائِها طلبًا للعملِ والكسبِ ، قال تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك:15].
أيها الشبابُ : الإستراحاتُ مضيعةٌ للوقتِ والمالِ ، يبقى الشبابُ فيها الساعاتِ الطوالَ دونَ فائدةٍ سوى تقليبِ شاشاتِ القنواتِ والمبارياتِ ، والأسواقُ مشرعةٌ وملأى بالخيرِ والرزقِ ، ولكنْ تحتاجُ منكمُ الصبرَ والرضى والإصرارَ والبدايةَ بالقليلِ ، فعبدُالرحمنِ بن عوفٍ رضي اللهُ عنهُ قالَ لأخيهِ الأنصاري دلوني على السوقِ وبدأ تجارتَهُ بعِقالِ بعيرٍ حتى أصبحَ من أغنياءِ الصحابةِ
قالَ عمرُ بنُ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ : (لا يقعدْ أحدُكُم عن طلبِ الرزقِ ويقولُ: اللهم ارزقني، وقدْ علِمَ أنَّ السماءَ لا تمطرُ ذهبًا ولا فضةً ، وأنَّ اللهَ تعالى إنما يرزقُ الناسَ بعضَهُم من بعضٍ)
إخوةَ الإيمان
الإسلامُ رغَّبَ في الكدِّ والعملِ والتحصيلِ ، وذمَّ البطالةَ بشتى صورِها ، وحذَّرَ منها ، لما فيها من الجمودِ والاتكاليةِ ، فبقاءُ الفردِ عاطلاً دونَ عملٍ معتمدًا على غيرِهِ يجعلُهُ مكسورَ الجناحِ ، واضعًا نفسَهُ تحتَ رحمةِ الخلقِ وشفقتِهِم ، يرجو برَّهُم وعطفَهُم ، ويسايرُهُم لكي لا يمنعوا عنهُ العطاءَ ، والمخرَجُ من ذلكَ أن يكونَ عاقلاً كادحاً ، عاملاً منتجًا ، وأنْ يوجدَ ويخلقَ لنفسِهِ مهنةً ، يكتسبُ من خلالِهَا ، وأن يكونَ عوناً لنفسِهِ وأسرتِهِ ومجتمعِهِ ، وأنْ لا يبقى عالةً على الآخرينَ .
، نسألُ اللهَ عزَّ وجلَّ أنْ يرزقَ عبادِه المسلمينَ وأنْ ييسرَ لهم سبلَ الأرزاقِ وأنْ يوفقنا وإياكم جميعا للتعاون على البر والتقوى ، إنه سميع مجيب ، صلوا وسلموا على النبي المصطفى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم
المفضلات