خطبة جمعة ( البدعة )
كتبها / عبدالله فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد
المصدر : عقيدة التوحيد معالي الدكتور الشيخ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء
الخطبة الأولى
أما بعدُ أيها المسلمون : فالبدعةُ لغةً : مأخوذةٌ منَ البَدْعِ ، وهو الاختراعُ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، قال تعالى ( قل ما كنتُ بدعاً من الرسلِ ) ، والابتداعُ يأتي على قسمينِ : أحدُهُما ابتداعٌ في العاداتِ كابتداعِ المخترعاتِ الحديثةِ ، وهذا مباحٌ ؛ لأنَّ الأصلَ في العاداتِ الإباحةَ ، وأما القسمُ الثاني فهو الابتداعُ في الدينِ ، وهذا محرمٌ ، لأنَّ الأصلَ في الدينِ التوقيفُ ، قال عليهِ الصلاةُ والسلامُ ( منْ عملَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فهوَ رد ) والبدعةُ في الدِّينِ نوعانِ : بدعةٌ قوليةٌ اعتقاديةٌ ، كمقالاتِ الجهميةِ والمعتزلةِ والرافضةِ ، وسائرِ الفِرَقِ الضالةِ ، واعتقاداﺗِﻬم ، والنوعُ الثاني : بدعةٌ عمليةٌ في العباداتِ ، كالتعبُّدِ للهِ بعبادةٍ لمْ يشرعْها ، والبدعةُ العمليةُ أربعةُ أقسامٍ : أولُها : ما يكونُ في أصلِ العبادةِ ، بأنْ يُحدَثَ عبادةً ليسَ لها أصلٌ في الشرعِ ، كأنْ يُحدثَ صلاةً غيرَ مشروعةٍ أو صياماً غيرَ مشروعٍ أصلاً ، أو أعياداً غيرَ مشروعةٍ كأعيادِ الموالدِ وغيرِها ، والقسمُ الثاني : ما يكونُ منَ الزيادةِ في العبادةِ المشروعةِ ، كما لو زادَ ركعةً خامسةً في صلاةِ الظهرِ أو العصرِ مثلاً ، والقسمُ الثالثُ : ما يكونُ في صفةِ أداءِ العبادةِ المشروعةِ ، بأنْ يؤدِّيها على صفةٍ غيرِ مشروعةٍ ، وذلكَ كأداءِ الأذكارِ المشروعةِ بأصواتٍ جماعيةٍ مُطربةٍ ، وكالتشديدِ على النفسِ في العباداتِ إلى حَدٍّ يُخرجُ عنْ سنةِ الرسولِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، والقسمُ الرابعُ : ما يكونُ بتخصيصِ وقتٍ للعبادةِ المشروعةِ لمْ يخصِّصْهُ الشرعُ ، كتخصيصِ يومِ النصفِ من شعبانَ وليلتِهِ بصيامٍ وقيامٍ ، فإنَّ أصلَ الصيامِ والقيامِ مشروعٌ ، ولكنْ ، تخصيصُهُ بوقتٍ من الأوقاتِ يحتاجُ إلى دليلٍ .
أيها المسلمونَ : وكلُّ بدعةٍ في الدينِ فهيَ محرمةٌ وضلالةٌ ، لقولِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ (فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٍ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ ) وفي روايةٍ ( مَنْ أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ منهُ فهو ردٌّ ) ومعنى ذلكَ أنَّ البدعَ في العباداتِ والاعتقاداتِ محرمةٌ ، ولكنَّ التحريمَ يتفاوتُ بحسبِ نوعيةِ البدعةِ ، فمنها ما هو كفرٌ صراحٌ ، كالطوافِ بالقبورِ تقرباً إلى أصحاﺑِﻬا ، وتقديمِ الذبائحِ والنذورِ لها ، ودعاءِ أصحاﺑِﻬا ، والاستغاثةِ ﺑﻬم ، وكأقوالِ غلاةِ الجهميةِ والمعتزلةِ ، ومنها ما هو من وسائلِ الشركِ ، كالبناءِ على القبورِ والصلاةِ والدعاءِ عندَها ، ومنها ما هو فسقٌ اعتقاديٌا كبدعةِ الخوارجِ والقدريةِ والمرجئةِ في أقوالِهم واعتقاداﺗِﻬم المخالفةِ للأدلةِ الشرعيةِ ، ومنها ما هو معصيةٌ ، كبدعةِ التبتُّلِ والإشقاقِ على النفسِ ،
وأمَّا مَنْ قسَّمَ البدعةَ إلى بدعةٍ حسنةٍ وبدعةٍ سيئةٍ فهو مخطئٌ ومخالفٌ لقولِه صلى اللهُ عليه وسلمَ ( كلُّ بدعةٍ ضلالةٌ ) وأماَّ قولُ عمرَ رضي اللهُ عنه في صلاةِ التراويحِ : ( نَعِمت البدعةُ ) فإنما يريدُ البدعةَ اللغويةَ لا الشرعيةَ ، لأنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلمَ قد صلى التراويحَ بأصحابِهِ ليالي ، وتخلَّفَ عنهم في الأخيرِ خشيةَ أن تُفرضَ عليهم ، فما كانَ له أصلٌ في الشرعِ يُرجعُ إليهِ ، فإنه إذا قيلَ إنه بدعةٌ ، فهو بدعةٌ لُغةً لا شرعاً ، لأنَّ البدعةَ شرعاً ما ليسَ لهُ أصلٌ في الشرع .
أيها المؤمنون : وتختلفُ البلدانُ الإسلاميةُ في ظُهورِ البدعِ فيها ، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ : ( فإن الأمصارَ الكبارَ التي سكَنها أصحابُ رسولِ اللِه صلى اللهُ عليه وسلمَ وخرجَ منها العلمُ والإيمانُ خمسةٌ : الحَرَمَانِ ، والعِرَاقَانِ ، والشامُ ، منها خرجَ القرآنُ والحديثُ ، والفقهُ والعبادةُ ، وما يتبعُ ذلكَ من أمورِ الإسلامِ ، وخرجَ من هذهِ الأمصارِ أيضاً بِدعٌ أصوليةٌ ، فالكوفةُ خرجَ منها التشيُّعُ والإرجاءُ ، وانتشرَ بعدَ ذلكَ في غيرِها ، والبصرةُ خرجَ منها القدرُ والاعتزالُ والنسُكُ الفاسدُ ، وانتشرَ بعدَ ذلكَ في غيرِها ، والشامُ كانَ ﺑﻬا النصبُ والقدرُ ، وأما التجهُّمُ فإنما ظهرَ في ناحيةِ خُراسانَ ، وهو شرُّ البدعِ .
وكانَ ظهورُ البدعِ بحسبِ البعدِ عنَ الدارِ النبويةِ ، فلما حدثت الفرقةُ بعد مقتلِ عثمانَ ظهرت بدعةُ الحَرُورية ، وأما المدينةُ النبويةُ فكانت سليمةً من ظهورِ هذهِ البدعِ ، فالعصورُ الثلاثةُ المفضلةُ لم يكنْ في المدينةِ النبويةِ بدعةٌ ظاهرةٌ البتة ، ولا خرجَ منها بدعةٌ في أصولِ الدينِ البتة ، كما خرجَ من سائرِ الأمصار .
عبادَ الله : ومما لا شكَ فيه أن الاعتصامَ بالكتابِ والسنةِ فيه منجاةٌ من الوقوعِ في البدعِ ، فمنْ أعرضَ عن الكتابِ والسنةِ ، تنازعتْهُ الطرقُ المضللةُ ، والبدعُ المحدثةُ ، وأما الأسبابُ التي أدَّتْ إلى ظهورِ البدعِ فهي تتلخصُ في الجهلِ بأحكامِ الدينِ ، واتباعِ الهوى ، والتعصبِ للآراءِ والأشخاصِ ، والتشبهِ بالكفارِ وتقليدِهم ، وما زالَ أهلُ السنةِ والجماعةِ يردونَ على المبتدعةِ ، و ينكرونَ عليهم بِدَعَهم ، ويمنعوﻧﻬم من مزاولتِها ، فعن أمِّ الدرداءَ قالت : ( دخلَ عليَّ أبو الدرداءَ مُغضَباً ، فقلتُ لهُ : ما لكَ ؟ ( فقالَ : واللهِ ما أعرفُ فيهم شيئاً من أمرِ محمدٍ إلا أﻧﻬم يصلونَ جميعاً ) .
وعن عُمر بنِ يحيىَ قال : ( سمعتُ أبي يُحدثُ عن أبيهِ قال : كنا نجلسُ على بابِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قبلَ صلاةِ الغداةِ ، فإذا خرجَ مشينا معهُ إلى المسجدِ ، فجاءَنا أبو موسى الأشعريُّ ، فقال : أخَرَجَ عليكم أبو عبد الرحمنِ بعدُ ؟ قلنا : لا ، فجلسَ معنا حتى خرجَ ، فلما خرجَ قمنا إليهِ جميعاً ، فقال : يا أبا عبدِ الرحمنِ ، إني رأيتُ في المسجدِ آنفاً أمراً أنكرتُهُ ، ولم أرَ - والحمدُ للهِ - إلا خيراً ، قال : وما هو ؟ قال : إنْ عشتَ فستراهُ ، قال : رأيتُ في المسجدِ قوماً حِلقاً جلوساً ينتظرونَ الصلاةَ ، في كلِّ حلقةٍ رجلٌ ، وفي أيديهم حصى فيقول : كبروا مائة ، فيكبرون مائة ، فيقول : هللوا مائة ، فيهللون مائة ، فيقول : سبحوا مائة ، فيسبحون مائة ، قال : ثم مضى ومضينا معهُ ؛ حتى أتى حلقةً من تلكَ الحلقِ ، فوقفَ عليهم فقال : ما هذا الذي أراكم تصنعونَ ؟ قالوا : يا أبا عبد الرحمن ، حصىً نعدُّ به التكبيرَ والتهليلَ والتسبيحَ والتحميدَ ، قالَ : فعدوا سيئاتِكم ، فأنا ضامنٌ أن لا يضيعَ من حسناتكِم شيءٌ ، ويْحُكُم يا أمةَ محمدٍ ، ما أسرعَ هلكتُكُم ، هؤلاءِ أصحابُهُ متوافرونَ ، وهذه ثيابُه لم تَبلُ ، وآنيتُه لم تُكسرْ ، والذي نفسي بيدِه : إنكم لعلى ملةٍ هي أهدى من ملةِ محمدٍ ، أو مفتتحو بابَ ضلالةٍ . قالو ا : والله يا أبا عبدِ الرحمنِ ما أردنا إلا الخيرَ ، قال : وكم مريدٍ للخيرِ لن يصيبَه ! إنَّ رسولَ اللهِ حدثنا أن قوماً يقرءون القرآنَ لا يجاوزُ تراقيهم ، وايمَ اللهِ لا أدري لعلَّ أكثرَهُم منكم . ثم تولَّى عنهم . فقال عمرو بن سلمةَ : رأينا عامةَ أولئكَ ( يُطاعنوننا يومَ النهروانِ مع الخوارجِ ) .
ومن البدعِ المعاصرةِ : الاحتفالُ بالمولدِ النبويِّ ، والتبركُ بالأماكنِ والآثارِ والأمواتِ ونحوِ ذلكَ ، ومنها ما يُفعلُ في شهرِ رجبَ من العباداتِ الخاصةِ به ، كالتطوعِ بالصلاةِ والصيامِ والعمرةِ فيهِ خاصةً ، فإنه لا ميزةَ له على غيرهِ من الشهورِ ، لا في الصيامِ ولا في الصلاةِ ولا غيرِ ذلكَ ومن ذلكَ أيضا : تخصيصُ ليلةِ النصفِ من شعبانَ بقيامٍ ، ويومِ النصفِ من شعبانَ بصيامٍ فإنه لم يثبتْ عن النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلمَ في ذلكَ شيءٌ خاصٌ ومنْ ذلكَ : البناءُ على القبورِ ، واتخاذُها مساجدَ ، وزيارﺗُﻬا لأجلِ التبرُّكِ ﺑﻬا ، وزيارةُ النساءِ لهاَ والتوسُّلُ بالموتى ، وغيرُ ذلكَ منَ الأغراضِ الشركيةِ ، نسألُ اللهَ أنْ يحميَنَا وإياكُم من شرورِ هذه البدعِ وأن يثبتَنَا على نهجِ القرآنِ وهديِ السنةِ .
باركَ اللهُ لي ولكُم بالقرآنِ العظيمِ
الثانية
أيها المسلمونَ : وختاماً نقولُ : إنَّ البدعَ بريدُ الكفرِ ، وهي زيادةُ دينٍ لم يشرعْهُ اللهُ ولا رسولُه ، والبدعةُ شرٌّ من المعصيةِ الكبيرةِ ، والشيطانُ يفرحُ ﺑﻬا أكثرَ مما يفرحُ بالمعاصي الكبيرةِ ، لأنَّ العاصي يفعلُ المعصيةَ وهو يعلمُ أﻧﻬا معصيةً فيتوبُ منها ، والمبتدعُ يفعلُ البدعةَ يعتقدُها ديناً يتقربُ بهِ إلى اللهِ ، فلا يتوبُ منها ، والبدعُ تقضي على السُننِ ، و تكرِّهُ إلى أصحاﺑِﻬا فعلَ السننِ وأهلِ السنةِ .
والبدعةُ تباعدُ عن اللهِ ، و توجِبُ غضبَهُ وعقابَهُ ، وتُسببُ زيغَ القلوبِ وفسادَها ، ثمَّ إنهُ يجبُ أنْ نعلمَ أنَّ دولَ الكفرِ والبدعةِ والضلالِ تشجِّعُ المبتدعةَ على نشرِ بدعتِهم ، وتساعدُهُم على ذلكَ بشتى الطرقِ ، لأنَّ في ذلكَ القضاءُ على الإسلامِ ، وتشويهٌ لصورتِهِ .
نسألُ اللهَ أنْ ينصرَ دينَه ، و يُعلي كلمتَه ، ويخذلَ أعداءَه ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه
المفضلات