الْخُطْبَةُ الْأُولَى
إنّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلاّ اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيِكَ لهُ، وأشْهَدُ أنّ مُـحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيِثِ كِتَابُ اللهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّم، وَشَرَّ الأمُورِ مُحْدَثاتُها ،وَكُلَّ مُحْدثةٍ بِدْعَةٍ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٍ، وكُلَّ ضَلالةٍ فِي النّارِ ، أَمَّا بَعْدُ:
عِبَادَ اللَّهِ / جَنَّةُ الْعَبْدِ فِي الدُّنْيَا وَنَعِيمُهُ وَسَعَادَتُهُ وَأُنْسُهُ وَاسْتِقْرَارُهُ وَهَدَفُهُ فِي حَيَاتِهِ أَنْ يَكُونَ سَعِيدًا فِي بَيْتِهِ وَبَيْنَ أُسْرَتِهِ ، فَهُوَ لَمْ يَتَزَوَّجْ لِيَشْقَى،وَلَمْ يُنْشِئْ بَيْتًا أُسَرِيًّا لِيَعِيشَ فِيهِ سَجِيِناً أَوْ يَهْجُرُهُ وَيَتْرُكُهُ؛ بَلْ تَزَوَّجَ لِيَكُونَ الزَّوَاجُ سَبَبًا فِي سَعَادَتِهِ فِي مَكَانَ أُنْسِهِ وَرَاحَتِهِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ))
عِبَادَ اللَّهِ / كَمْ مِنْ الْبُيُوتِ الْجَمِيلَةِ الْوَاسِعَةِ ذَاتِ الْمَوْقِعِ الْجَيِّدِ الْفَرِيدِ ،وَالَّذِيِ يَضَنُّ الْكَثِيرُونَ أَنَّهَا جَنَّةٌ لِسَاكِنِيهَا ،وَهِيَ فِي الْوَاقِعِ نَارٌ مُلْتَهِبَةٌ بِالْمَشَاكِلِ وَالْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ ؛وَفِي الْمُقَابِلِ نَلْحَظُ بُيُوتًا صَغِيرَةً مُتَوَاضِعَةً فِي أَمَاكِنَ لَا تَصِلُهَا رُبَّمَا إِلَّا الطُّيُورَ، وَهِيَ جَنَّةٌ وَبَسَاتِينُ عَلَى سَاكِنِيهَا ،وَنَعِيمٌ لَا يَنْقَطِعُ عَلَى الْأُسْرَةِ أَجْمَعَ ، وَالسِّرِّ فِي ذَلِكَ -عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ هُنَاكَ أَسْبَابٌ تَحَقَّقَتْ لِهَذَا الْبَيْتِ الْمُتَوَاضِعِ مِنْ أَهَمِّهَا : اَلْإِيمَانُ الْمَقْرُونُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ ؛الَّذِي هُوَ سِرُّ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ ،وَوَسِيلَةٌ مِنْ وَسَائِلِ الْكَرَامَةِ وَالْفَلَاحِ ؛فَبِتَحْقِيقِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ تَسْعَدُ وَتَنْعَمُ الْبُيُوتُ !فَلَا قَلَقَ وَلَا مَشَاكِلَ وَلَا اضْطِرَابَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى((مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) وَلِذَلِكَ اهْتَمَّ الْإِسْلَامُ اهْتِمَامًا بَالِغًا بِصَلَاحِ أَسَاسِ الْأُسْرَةِ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى ((وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ )) وَقَدْ جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعَادَةَ الْبَيْتِ بِصَلَاحِ الزَّوْجَيْنِ فَقَالَ ((إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ )) صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ )) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
فَإِذَا كَانَ الدِّينُ هُوَ الْمِقْيَاسُ فِي الزَّوَاجِ وَالْمُقَدَّمُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَاسْتَبْشَرُوا لِلْأُسْرَةِ خَيْرًا،وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَالُ أَوْ النَّسَبُ أَوْ الْجَمَالُ هُوَ الْمَطْلُوبُ وَالْمُعَوِّلُ عَلَيْهِ دُونَ الدِّينِ وَالْخُلُقِ ،فَرُبَّمَا يَبْقَى أَكْثَرُ النِّسَاءِ بِلَا أَزْوَاجٍ ، وَأَكْثَرُ الرِّجَالِ بِلَا نِسَاءٍ ، فَيَكْثُرُ الِافْتِتَانُ بِالزِّنَا، وَرُبَّمَا يَلْحَقُ الْأَوْلِيَاءَ عَارٌ ، فَتَهِيجُ الْفِتَنُ وَالْفَسَادُ ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَطْعُ النَّسَبِ ، وَقِلَّةُ الصَّلَاحِ وَالْعِفَّةِ، وَكَثْرةُ الْمَشَاكِلِ الْأُسَرِيَّةِ وَتَعَاسَةُ الْبُيُوتِ .
فَمِنْ ثِمَارِ الدِّينِ عَلَى الْأُسْرَةِ:حُصُولُ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْأُلْفَةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا،وَتَخْرِيجُ جِيلٍ صَالِحٍ يَحْمِلُ لِوَاءَ الدَّعْوَةِ وَالصَّلَاحِ وَالْإِصْلَاحِ ؛لِيَنْتَفِعَ بِهِمُ الْمُجْتَمَعُ ،وَكُلَّمَا فَقَدَتِ الْأُسْرَةُ الدِّينَ ، اضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهَا، وَتَصَدَّعَ بِنَاؤُهَا ،وَكَثُرَتْ مَشَاكِلُهَا ،وَعَمَّ انْحِرَافُ أَبْنَائِهَا ؛فَاغْلَبُ الْأَطْفَالِ الْمُنْحَرِفِينَ الَّذِينَ تَعَوَّدُوا عَلَى الْإِجْرَامِ فِي كِبَرِهِمْ , كَانَ أَكْثَرُهُ نَاشِئًا مِنْ عَدَمِ الِاسْتِقْرَارِ الْعَائِلِيِّ ، فَاتَّقُوُا اللهَ - عِبَادَ اللهِ – فَقَدْ قَالَ رَبُّكُمْ فِيِ كِتَابِهِ ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى )) بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكَمَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمِ .
اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَانِهِ ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ ، صَلّى الله عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وأعْوانِهِ وسَلّم تَسْلِيماً كثيراً .
عِبَادَ اللهِ /مِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْبُيُوتِ : الصَّبْرُ عَلَى التَّرْبِيَةِ وَالتَّوْجِيهِ،وَعَلَى بَعْضِ الْمَشَاكِلِ الَّتِي قَدْ تَحْدُثُ فِي الْبُيُوتِ وَاحْتِسَابُ الْأَجْرِ فِي ذَلِكَ ؛مَعَ أَخْذِ التَّرَوِّي وَالْحِكْمَةِ وَالرِّفْقِ فِي عِلَاجِ الْمَشَاكِلِ فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ )) مُتَّفُقٌ عَلَيْهِ
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ )) رَوَاهُ مُسْلِمٌ . وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ : قَالَ لِعَائِشَةَ : (( عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ ، وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ ، إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ ))
وَمِنْ أَسْبَابِ سَعَادَةِ الْبُيُوتِ : الدُّعَاءُ لِلْأُسْرَةِ بِالصَّلَاحِ وَالْفَلَاحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي وَصْفِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الصَّالِحِينَ النَّاصِحِينَ ((وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا )) اَللَّهُمَّ أَصْلِحِ الْآبَاءَ وَالْأُمَّهَاتِ وَالزَّوْجَاتِ ،وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ ، اللَّهُمَّ حَبَّبَ إِلَيْهِمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنْهُ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَكَرِّهَ إِلَيْهِمْ الْكَفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ،وَاجْعَلْهُمْ مِنْ الرَّاشِدِينَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ ،هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ (( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا )) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
( مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى الله ُعَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) رَوَاهُ مُسْلِم .
المفضلات