الْخُطْبَةُ الْأُولَى
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ الْجَوَادِ الْكَرِيمِ، الشَّكُورِ الْحَلِيمِ ، أَسْبِغَ عَلَى عِبَادِهِ النِّعَمَ ،وَدَفَعَ عَنْهُمْ شَدَائِدَ النِّقَمِ وَهُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ وَحَدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، وَالْخَيْرِ الْعَمِيمِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفَى الْكَرِيمُ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيِراً .
أَمَّا بَعْدُ : أَيُّهَا النَّاسُ /
أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ))
عِبَادَ اللهِ / نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْنَا لَا تُعَدُّ وَلَا تُحَدُّ وَلَا تُحْصَى ، وَكَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ )) وَمِنْ النِّعَمِ مَا ذَكَّرَنَا اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ بِقَوْلِهِ ((وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ))
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: ((وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ )) أَيْ مِمَّا نَرْكَبُ مِنَ السَّيَّارَاتِ وَالْقِطَارَاتِ وَالطَّائِرَاتِ وَغَيْرِهَا ، وَهُوَ أَيْضًا يَخْلُقُ مَا لَا نَعْلَمُ مِنْ غَيْرِ مَا نَرْكَبُ .
فَتَنَوَّعَتْ وَسَائِلُ السَّفَرِ وَالتَّنَقُّلِ، وَبَرَزَتِ السَّيَّارَةُ مِنْ تِلْكَ الْوَسَائِلِ بِلَا مُنَازِعٍ وَمُنَافِسٍ ، حَيْثُ تَنَافَسَ أَفْرَادُ الْمُجْتَمَعِ بِاقْتِنَاءِ الْعَدِيدِ مِنْهَا ! فَازْدَحَمَتْ الطُّرُقُ الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ ، وَبَاتَ الْأَحْدَاثُ يَمْلِكُونَهَا وَيَقُودُونَهَا بِنِسْبَةٍ عَالِيَةٍ ؛ فَزَادَتْ الْحَوَادِثُ وَتَنَوَّعَتْ ،وَأَصْبَحَ الْوَاحِدُ مِنَّا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ وَيُوَدِّعُ أَبْنَائَهُ لَا يَعْلَمُ هَلْ يَعُودُ لَهُمْ ثَانِيَةً أَمْ لَا ؟
وَأصْبَحْنَا نَسْمَعُ وَنَرَى أَرْوَاحًا تُزْهَقُ ، وَنِسَاءً تَتَرَمَّلُ ، وَأُسَرًا تَفْنَى ، وَأَطْفَالًا تُيَتَّمَ ، وَأَمْرَاضًا مُزْمِنَةً ،وَإِعَاقَاتٍ مُسْتَدِيمَةً ، وَمُنْشَآةٍ تُهَدُّمُ ، وَمُنْجَزَاتٍ تُتْلَفُ ، وَلاَحَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاّ بِاللهِ .
عِبَادَ اللهِ / مِنْ خِلَالِ الْبُحُوثِ الْجَامِعِيَّةِ الْمُوَثَّقَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ هُنَاكَ مِنْ الْخَسَائِرِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْمَادِّيَّةِ جَرَّاءَ الْحَوَادِثِ مَا يُعَادِلُ خَسَائِرَ حَرْبٍ عَسْكَرِيَّةٍ طَاحِنَةٍ ، وَكَأَنَّمَا تَدُورُ رَحَاهَا فِي بِلَادِنَا هَذِهِ بِلَادِ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ ، فَضْلًا عَنْ الْخَسَائِرِ بِالْأَرْوَاحِ ؛ حَيْثُ تَقُولُ الْإِحْصَاءَاتُ الرَّهِيبَةُ ، إِنَّ حَوَادِثَ الْمُرُورِ فِي الْمَمْلَكَةِ تُؤَدِّي إِلَى إِصَابَةِ خَمْسَةِ أَشْخَاصٍ فِيِ كُلِّ سَاعَتَيْنِ ، وَوَفَاةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِيِ كُلِّ ثَلَاثِ سَاعَاتٍ ، وَهُوَ مَا يَزِيدُ عَلَى الْمُعَدَّلَاتِ الْقِيَاسِيَّةِ حَتَّى فِي الدُّوَلِ الْكُبْرَى ، وَمَعَ أَنَّ النُّظُمَ الْمُرُورِيَّةَ فِي حَزْمِ وَصَرَامَةِ، إِلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ فِي عَدَدِ السُّكَّانِ مِنْ مُوَاطِنِيِنَ وَمُقِيمِينَ، إِلَى جَانِبِ عَدَمِ حِرْصِ الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ عَلَى السَّلَامَةِ الْمُرُورِيَّةِ .
فَمَاذَا يَبْقَى إِذَا هَانَتِ الْأَرْوَاحُ ، وَفَاضَتِ النُّفُوسُ الزَّكِيَّةُ ، وَالدِّمَاءُ الْبَرِيئَةُ ، وَاللَّهُ يَقُولُ ((وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) وَقَالَ تَعَالَى((وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ))
كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يَتَذَكَّرُ أَطْفَالًا فِي مُسْتَقْبَلِ الْحَيَاةِ، وَشَبَابًا فِي نَضْرَةِ الْعُمُرِ فَقَدُوا مَنْ يَعُولَهُمْ ، وَحُرِمُوا مِنْ حَنَانِ أَبٍ أَوْ أُمٍّ ، وَكَذَلِكَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ فَقَدَتْ مِنْ يَرْعَاهَا وَأَطْفَالَهَا ، وَحَالُ الْوَالِدَيْنِ الَّتِي فَقَدَتْ ابْنَهَا الْيَافِعُ وَحَبِيبَهَا الْأَمَلُ ، وَوَضْعُ أُسْرَةِ حَلَّ بِهَا مُعَاقٌ ، أَوْ فَاقِدٌ لِلْوَعِيِ بِإِحْدَى الْمُسْتَشْفَيَاتِ ، فَالْأَمْرُ جِدُّ خَطِيرٌ وَيَحْتَاجُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا حَزْمًا مَعَ نَفْسِهِ ، وَحِرْصًا عَلَى تَطْبِيقِ وَسَائِلِ السَّلَامَةِ الْمُرُورِيَّةِ ؛بِالْعِنَايَةِ بِإِصْلَاحِ أَيِّ عُطْلٍ فِي السَّيَّارَةِ ! فَالْأَرْوَاحُ أَغْلَى مِنْ أَنْ تُفْدَى بِالْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ تَوَخِّي الْحَذَرُ عِنْدَ الْقِيَادَةِ ، فَلَا نَنْشَغِلُ بِالْهَاتِفِ أَوْ بِغَيْرِهِ عَنِ الطَّرِيقِ ، وَلَا نَقُودُ السَّيَّارَةَ وَالنَّوْمُ قَدْ دَاعَبَ أَعْيُنِنَا ؛ فَغَفْوَةٌ وَاحِدَةٌ قَدْ تَحْرِمُ أُسْرَةً كَامِلَةً مِنْ عَائِلِهَا ، وَتَحْرِمُ أَمًّا مِنْ وَحِيدِهَا ، وَامْرَأَةً مِنْ زَوْجِهَا ، وَتَحْرِمُ مُسْلِمًا مِنْ الِاسْتِزَادَةِ مِنْ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ، أَوْ تَحْرِمُ عَاصِيًا مِنْ فُرْصَةِ التَّوْبَةِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ بَعْدَ تَقْدِيرِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ ، وَلَا يُحِبُّ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي ذَلِكَ .
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكَمَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنْ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمِ .
اَلْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لَشَانِهِ ، وأشهدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ ، صَلّى الله عَليْهِ وَعَلى آلِهِ وأصْحَابِهِ وأعْوانِهِ وسَلّم تَسْلِيماً كثيراً .
عِبَادَ اللهِ / اِتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْحِرْصَ عَلَى السَّلَامَةِ ، وَإِعْطَاءَ الطَّرِيقِ حَقَّهُ ؛ مِنْ صِفَاتِ عِبَادِ الرَّحْمَنِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ ((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا )) فَهُمْ يَمْشُونَ بِلَا تَصَنُّعٍ وَبِلَا تَكَلُّفٍ وَبِلَا كِبْرٍ أَوْ خُيَلَاءَ وَإِيذَاءٍ ، يَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ عَنْ مَحَارِمِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَيَتَنَزَّهُونَ عَنْ السِّبَابِ وَالشَّتَائِمِ وَالصُّرَاخِ ، وَيَحْتَرِمُونَ أَنْظِمَةَ الْمُرُورِ وَقَوَاعِدَ السَّلَامَةِ ، كَمَا أَوْصَاهُمْ بِذَلِكَ رَبِّهِمْ فَقَالَ ((يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا )) وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُدٌّ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، قَالَ: فَأَمَّا إِذَا أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجْلِسَ, فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, فَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ)) [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيِثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ]
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ ، وَاشْكُرُوا اللَّهَ تَعَالَى عَلَى نِعَمِهِ الْعَظِيمَةِ وآلائه الْجَسِيمَةِ ، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا على مَنْ أَمَرَ اللهُ باِلصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ ، فَقَال (( إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا )) وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى الله ُعَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) [ رَوَاهُ مُسْلِم ]
المفضلات