الخطبةُ الأولى
عِبَادَ اللهِ / حديثُنا الْيومَ عنْ عبادةٍ عظيمةٍ ، وخَصْلةٍ حميدةٍ أمر اللهُ بها ، وامْتثلَهَا رسولُ الهُدى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فيِ حَياتهِ ، هِيَ منْ أفْضَلِ ما يُقَـرّبُ العبدَ إلى رَبّهِ وَخالِقِهِ ، هِيَ سببٌ فِي رَفْعِ الدّرجاتِ وَعُلوِّ الْهِمَمِ ؛ بَلْ سببٌ فِي حُبِّ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، والقُرْبِ مِنْهُ يومَ الْقِيامَةِ ،إنّهَا عِبادَةُ حُسْنِ الْخُلُقِ الّذِي أمرَ اللهُ بِها فقالَ ((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)) بَلْ أمرَنا بِحُسْنِ الخُلُقِ معَ أهْلِ الكتابِ عنْدَ مُجَادَلَتِهِمْ ودعوتهِم لِلإسْلامِ فقالَ ((وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)) وحُسنُ الخُلُقِ مُصاحِباً لِلدّعوةِ إلى اللهِ معَ الْكُفّارِ وغَيْرِهِم ، قالَ تَعالى ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ))
حسنُ الخُلُقِ سببٌ فِي دُخُولِ الجنّةِ ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ : سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ ، قَالَ : (( تَقْوَى اللهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ )) رواهُ التِّرمذِيُّ وحسّنَهُ الألْبانِيُّ .
وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا ، وَبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا ، وَبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ )) رواهُ أبُوداودَ ، وحسّنَهُ الألْبانِيُّ .
عِبَادَ اللهِ / قَدْ يَتـَصَوّرُ بعضُ النّاسِ أنّ حُسْنَ الخُلُقِ مَحْصُورٌ فِي الكلمةِ الطّيبةِ ،وَالمْـُعَامَلَةِ الْـحَسَنَةِ فَقَط، والحقيقةُ أنَّ حُسْنَ الخـُلُقِ أوسعُ منْ ذلكَ فَيَشْمَلُ الكلمةَ الطيبةَ ،والمعاملةَ الحسنةَ أيْضاً التّواضُعَ ولينَ الجانبِ، ورحمةَ الصّغيرِ واحْترامَ الكبيرِ ، وَدوامَ الْبِشْرِ ،وَحُسْنَ المْـُصَاحَبةِ ،وسُهولةَ الكلمةِ ،وإصْلاحَ ذاتِ الْبَـيْنِ ،والتّواضُعَ ،والصّبرَ ، والصّدقَ ،وغَيْرَ ذلكَ مِنَ الأخْلاقِ الْحَسَنَةِ والأفْعالِ الْحـَمِيدةِ الّتِي حَثَّ عَليـْها الإسْلامُ ، ورغّبَ فِيها.
وَقَدْ جَمعَ بعْضُ الْعُلَماءِ عَلاماتِ حُسْنِ الْخُلُقِ فَقالَ : هُوَ أنْ يكونَ كثيرَ الحياءِ ، قَليلَ الأذَى، كَثيرَ الصّلاحِ ،صَدُوقَ اللّسَانِ، قَلِيلَ اْلكَلامِ، كَثيرَ الْعَمَلِ، قَليلَ الزّلَلِ ،قَليلَ الفُضُولِ، بَـــرّاً وَصُولاً وَقُوراً صَبُوراً شَكوراً رَضِياً حَكيماً رَفِيقاً عَفِيفاً شَفِيقاً، لا لَعّاناً وَلا سَبّاباً وَلا نَمّاماً وَلا مُغْتَاباً وَلا عَـجُولاً وَلا حَقُوداً وَلا بَخِيلاً وَلا حَسُوداً، بَشّاشاً هَشّاشاً ، يُحِبُّ فِي اللهِ ، وَيُبـْغِضُ فِي اللهِ ، وَيَرْضَى فِي اللهِ ، وَيَـغْـضَبُ فِي اللهِ ، فَهَذا هُوَ حُسْنُ الْخُلُقِ.
وكما قيل :
وإذا بحثتَ عن التقي وجدتَهُ *** رجلاً يُصدِّق قولَهُ بفعالِ
وإذا اتقى اللّه امرؤٌ وأطاعه *** فيداه بين مكارمٍ ومعالِ
وعلى التقي إذا ترسَّخ في التقى *** تاجان: تاجُ سكينةٍ وجلالِ
وإذا تناسبتِ الرجالُ فما أرى *** نسبًا يكون كصالحِ الأعمالِ
قال الحسنُ البصْريُّ - رحمهُ اللهُ تَعالى - "معالي الأخلاقِ للمؤمنِ، قوةٌ في لينٍ ،وحزمٌ في دينٍ ،وإيمانٌ في يقينٍ ،وحرصٌ على العلمِ ،واقتصادٌ في النّفقةِ، وبذلٌ في السَّعةِ ،وقناعةٌ في الْفَاقَةِ ، ورحمةٌ لِلْمَجْهُودِ ،وإعْطاءٌ في كَرَمٍ ،وَبِرٍّ فِي اسْتِقَامَةٍ "
أَيّها الْمُـسْلِمُونَ / حُسْنُ الخـُلُقِ نِعْمةٌ كُبرى ،وَمِنّةٌ عُظْمَى يُكْرِمُ اللهُ تعالى بِها منْ يشاءُ منْ عِبادهِ ؛فحَـَسنَ الخـُلقِ قريبٌ منَ الخالقِ حبيبٌ الى الخَلائقِ ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلَاقًا )) مُتّفقٌ عَلَيْهِ
الْـخُـلُقُ الحَسَنُ بركةٌ على صاحبه ، وعلى مجتمَعِهِ .
الْـخُـلُقُ الحَسَنُ خيرٌ ونماءٌ ، ورفعةٌ عندَ اللهِ وسناءٌ ، محبةٌ فِي قُلوبِ الخَلْقِ في الدُّنيا ،وحُسْنُ عَاقبةٍ فِي الأُخْرَى ؛وذلكَ لِطِيبِ مَعْشَرِهِ ،ولِينِ جَانِبهِ ،وسُهولَةِ مُعَاملتِهِ ،وجَمالِ خِطَابِهِ ،وكَمالِ جَوابِهِ ، وَبِبَذْلِهِ الخيرَ لِلْغَيرِ ؛ بِـخِلافِ سَيّءِ الْـخُلُقِ الّذِي هُوَ شُؤْمٌ وَبَلاءٌ ،وَمَحْقُ بَركَةٍ وعناءٌ، وشقاءٌ عاجلٌ وشرٌّ آجلٌ ، فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: (( مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنَ حُسْنِ الْخُلُقِ )) رواهُ أبودَاودَ وصَحّحَهُ الألْبَاني .
فاتّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ واحْرِصُوا على رِضَا الْخالِقِ بِحُسْنِ الْخُـلُقِ لِلْخَـلائِقِ تَفُوزُوا ،وتُفْلِحُوا ،وتَرْبـَحُـوا الدُّنيا والآخِرَة .
أقولُ ماتَسْمَعُونَ ، وَاسْتَغْفُرُ اللهَ الْعَظيمَ الْجَليلَ مِنْ كُلِّ ذنْبٍ فَاسْتغفِرُوهُ وتُوبُوا إليْهِ إنّهُ هو الْغَفُورُ الرّحِيم .
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ للهِ على إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ له على توفيقه وامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ ألاّ إله إلا الله تعظيماً لِشَانهِ ، وأشهدُ أن نبيّنا محمداً عبدُه ورسولُهُ الداعي إلى رضوانِهِ ، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِهِ وأعْوانِهِ وسلم تسليماً كثيراً
إِني لتطربُني الخِلالُ كريمةً . . . . طربَ الغريبِ بأوبةٍ وتلاقِ
ويَهُزُّني ذكْرُ المروءةِ والندى . . . . بين الشمائلِ هزةَ المشتاقِ
فإِذا رُزقتَ خَليقةً محمودةً . . . . فقد اصطفاكَ مقسِّمُ الأرزاقِ
والناسُ هذا حظُّه مالٌ وذا . . . . علمٌ وذاكَ مكارمُ الأخلاقِ
والمالُ إِن لم تَدَّخِرْه محصناً . . . . بالعلمِ كان نهايةَ الإملاقِ
أَيّها الْمُـسْلِمُونَ / قُدوتُـنَا فِي الأخْلاقِ الْحَـسَنةِ، والسّيرةِ الطّيبةِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ، كيفَ لا ! وقدْ مدحَهُ اللهُ فِي القرآنِ الْكَرِيمِ ، فقالَ : (( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )) وَقَدْ وَصَفَتْهُ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا بِأنَّ خُلُقَةُ الْقرآن، بِمَعْنى أنّ امْتِثالَ القُرآنَ أمرًا وَنَـهْياً، وانْقِياداً وعملاً، وظاهِراً وبَاطِناً كانَ له طَبْعُهُ وَسَجِيّتُهُ، وقدْ سُئِلَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا، لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا، وَلَا صَخَّابًا فِي الْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ ))
فَاتّقوا اللهَ – عِبادَ اللهِ – واعْكِسُوا صُورةَ الإسْلامِ الناصِعَةَ مِنْ خِلالِ تَعَامُلِكُم بِأخلاقٍ فَاضِلَةٍ مَعَ النّاسِ ، وَاحْرِصُوا أنْ تَدْعُوا النّاسَ بِأَخْلاقِكُم وَسُلُوكِكُم الْحَسَنِ قَبْلَ كَلامِكُم ! لأنَّ النّاسَ مَجْبُولةٌ عَلَى التّـأَثّرِ بِالْفِعْلِ وَالْعَمَلِ قَبْلَ الْعَمَلِ ، هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا – رَحِمَنِي اللهُ وَإِيّاكُم – على مَنْ أَمَرَ اللهُ باِلصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ ، فَقَال )) إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا(( وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى الله ُعَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) رواه مسلم
اللّهم صَلّي وَسَلّم على عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمّد ، وعلى آلِه وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ ، وارضَ اللّهُمَّ عن الخلفاء الراشدينَ : أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وَعَلي ، وعن بقيةِ الْعَشَرَةِ المبشرينَ بالجنة ، وعن صحابة رسولِكَ أجْمَعينَ ، وعَنِ التابعينَ وتابعيـهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين ، وعنّا مَعَهُم بِرحمتـكَ يا أرْحم الراحمين .
المفضلات