الخطبةُ الأولى
عبادَ الله / أولادُنا ثمارُ قلوبِنا ، وعِمادُ ظُهورِنا ، وَفَلَذاتُ أكبادِنا ، وأحشاءُ أفئِدَتِنا ، وزينةُ حياتِنا ، كما قال تعالى : ((الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ))
إنّما أولادُنا بيننَا *** أكبادُنا تَمْشِي على الأرْضِ
لو هبّت الريحُ على بعضِهِم *** لامْتَنَعتْ عَيْني عنِ الغمْض
عبادَ الله / للهِ في خلقه شُئونٌ ، له الأمرُ كلُّه وإليه يرجع الأمرُ كلُّه ، يعطي ويمنع ، ويخفض ويرفع بعلمه وحكمته ومشيته (( لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ، أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ))
فجميلٌ لِمن رُزقَ بنتاً أو أكثرَ أنْ يُذكّرَ نفسَه بهذه النعمة العظيمة ويستشعرَ قولَ المصطفى صلى الله عليه وسلم ((مَنْ عَالَ جَارِيَتَيْنِ حَتَّى تَبْلُغَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَا وَهُوَ هَكَذَا ، وَضَمَّ أَصَابِعَه (( رواه مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه .
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها (( مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هذهِ الْبَناتِ بِشَيءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنّ لَهْ سِتْراً مِنَ النّارِ )) فَيَا بُنَيّتِي أنتِ قرةُ عيني ، وبهجةُ حياتي ، وأنسُ عيشي ، بكِ يحلو العُمُرُ ، وعَليكِ تُعلّقُ الآمال ، ميلادُكِ فرحةٌ لي كُبْرى ، وبِشارةٌ عُظمى، لأنّكِ ريحانةُ الحاضرِ ، وأمُّ المستقبل، تُرَبّي الأجْيالَ، وتَصْنَعُ الأبطالَ.
يَا بُنَيّتِي ! أنتِ منحةٌ ونعمةٌ من الله تعالى ،ومع ذلكَ فأنتِ امتحانٌ واختبارٌ لي في تَرْبِيَتُكِ ، احتاجُ فيها إلى صبرٍ ومصابرة ، وجُهدٍ ومجاهدة ، وإحسانٍ وإتقانٍ حتى تنشئيِ بنتاً على منهجِ الرحمنِ ؛ ليكونَ جزائي من الله جنةَ الرضوان ، والوقايةَ من النيران ، تقول أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رضي الله عنها وأرضاها (جَاءَتْنِى مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ, فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً, وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِى كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا, فَأَعْجَبَنِى شَأْنُهَا فَذَكَرْتُ الَّذِى صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ ) رواه مسلم.
يابنيتي : أنتِ رقيقةٌ ضعيفةٌ عاطفية ، أُسمعك كلمات الرفق والتقدير والحنان ؛ لأنك بحاجة ماسة إلى سماع مثل هده الكلمات مني ؛ فبمثلِ تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع بناته وبنات بناته أتعامل معك ، ففاطمةُ بنت النبي صلى الله عليه وسلم كانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها ؛ بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها) فما أجملُها من أخلاق وما أعظمه من أدب.
يابنيتي كوني امرأة صالحة مستقيمة قدوتك أمهات المؤمنين فصلاحك سعادة لي ولكي وللمجتمع الإسلامي ، فأنت المدرسة الأولى في بناء المجتمع الصالح، وأنت ركيزة المستقبل، فأنت الزوجة الصالحة والأم الحانية حاضنة الأبناء، قال تعالى: ((فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ))
وكما قيل :
الأمُّ مـــدرســـة إذا أعــددتــهــا *** أعـددت شـعباً طـيب الأعـراق
الأم روض إن تــعـهـده الـحـيـا *** بــالــري أورق أيــمــاً إيـــراق
الأم أســتــاذ الأســاتـذة الألـــى *** شـغـلت مـآثـرهم مــدى الآفـاق
يابنيتي الحياء كله خير ، والحياء لا يأتي إلا بخير ، فخلق الحياء لك حصن منيع وحارس أمين أمام ماقد تتعرضين له من أعداء الأمة الإسلامية والتي تستهدف نزع الحياء وضرب العفة والطهر والأخلاق ثم الإسلام .
يَا دُرَّةً حُفِظَتْ بالأَمْسِ غَالِيَةً
وَالْيَوْمَ يَبْغُونَهَا لِلَّهْوِ وَاللَّعِبِ
يَا حُرَّةً قَدْ أَرَادُوا جَعْلَهَا أَمَةً
غَرْبِيَّةَ الْعَقْلِ لَكِنَّ اسْمَهَا عَرَبِي
عَهْدُ السُّجُودِ لِفِكْرِ الْغَرْبِ قَدْ ذَهَبَتْ
أَيَّامُهُ فَاسْجُدِي لِلَّهِ وَاقْتَرِبِي
فَلْتَحْذَرِي مِنْ دُعَاةِ لاَ ضَمِيرَ لَهُمْ
مِنْ كُلِّ مُسْتَغْرِبٍ فِي فِكْرِهِ خَرِبِ
وَلاَ تُبَالِي بِمَا يُلْقُونَ مِنْ شُبَهٍ
وَعِنْدَكِ الْعَقْلُ إِنْ تَدْعِيهِ يَسْتَجِبِ
صُونِي جَمَالَكِ صُونِي الْعِرْضَ لاَ تَهِنِي
وَصَابِرِي وَاصْبِرِي لِلَّهِ وَاحْتَسِبِي
إِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ فَاتَّخِذِي
مِنْهُ حُلِيَّكِ يَا أُخْتَاهُ وَاحْتَجِبِي
تَذَكَّرِي الْوَرْدَةَ الْبَيْضَاءَ يَانِعَةً
يَفُوحُ مِنْهَا الشَّذَا يُشْتَمُّ عَنْ كَثَبِ
حَتَّى إِذَا ابْتُذِلَتْ مَاتَتْ نَضَارَتُهَا
وَأُلْقِيَتْ كَالْقَذَى مَا فِيهِ مِنْ رَغَبِ
يابُنَيتي ! احذري الذئابَ البشريةَ المسعورةَ التي تُخططُ عقولُهم وتخط أيديهم ، وتلوك ألسنتهم ، لتحريرِ المرأة ، وخروجِها من بيتها ، واختلاطِها بالرجال الغرباء ، وسكنها بمفردها ، وانسلاخها من محرمها ، وخروجها إلى النوادي ، وارتيادها المقاهي ، ونشر جديد صورها وأخبارها ، وغير دلك من أنواع الحرية الشيطانية المزعومة ؛ فكوني بُنيتي على حدر ، فأنتي منهم على خطر ، فلا نجاة ولا فلاح ولا سعادة بعد الانسلاخ من الدين إلى العهر، وتمزيق العفة والعرض والطهر ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ))
اللهم أصلح أحوالنا ودرياتنا وجميع المسلمين يارب العالمين ، اللهم أصلح الأولاد والبنات ، اللهم علق قلوبهم بالصلاة والقرآن ، اللهم احفظهم بحفظك ، واصرفْ عنهم كل سوء ومكروه يارب العالمين ، أقولُ ماتَسْمَعُونَ ، وَاسْتَغْفُرُ اللهَ الْعَظيمَ الْجَليلَ مِنْ كُلِّ ذنْبٍ فَاسْتغفِرُوهُ وتُوبُوا إليْهِ إنّهُ هو الْغَفُورُ الرّحِيم .
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ للهِ على إِحْسَانِهِ ، والشّكْرُ له على توفيقه وامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ ألاّ إله إلا الله تعظيماً لِشَانهِ ، وأشهدُ أن نبيّنا محمداً عبدُه ورسولُهُ الداعي إلى رضوانِهِ ، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِهِ وأعْوانِهِ وسلم تسليماً كثيراً
أما بعدُ : عِبَادَ اللهِ / إن المتأملَ في واقع الأمم والشعوب ، التي تركت أمر علام الغيوب ، فأخرجوا المرأة من بيتها لتنعم بحريتها كما زعموا ، لاقت آلاماً مفجعة ، وجراحاً موجعة ، وليس ذلك بغريب ولا عجيب ، فلقد قال الله تعالى (( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً )) ، وقال تعالى (( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ))
فيابنيتي ! يا فتاة الإسلام ! يا سلالة الأكرمين ، ويا حفيدة أمهات المؤمنين، إن بيتك لك حصنٌ حصين، وملجأٌ أمين، وظِلٌّ وارف، هو قوقعة الجوهرة، وصدفة اللؤلؤة، ومكنون الدرة، تزداد فيه نضارةً وبهاءً، وحسناً وضياءً، وحين تخرج منه يخبو نورها، ويتضاءل ضياؤها، ويذهب جلاؤها، اللهم إنا نسألك أن تعيننا على القيام بحقوق عبادك يا رب العالمين، اللهم أعنا على تربية أبنائنا وبناتنا، اللهم إنا نسألك أن تهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وأن تجعلنا للمتقين إماماً.
هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا – رَحِمَنِي اللهُ وَإِيّاكُم – على مَنْ أَمَرَ اللهُ باِلصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ ، فَقَال )) إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا(( وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى الله ُعَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) [ رواه مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه ]
اللّهم صَلّي وَسَلّم على عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمّد ، وعلى آلِه وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ ، وارضَ اللّهُمَّ عن الخلفاء الراشدينَ : أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وَعَلي ، وعن بقيةِ الْعَشَرَةِ المبشرينَ بالجنة ، وعن صحابة رسولِكَ أجْمَعينَ ، وعَنِ التابعينَ وتابعيـهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين ، وعنّا مَعَهُم بِرحمتـكَ يا أرْحم الراحمين .
المفضلات