الخطبة الأولى
إنّ الحمدَ لله نحمدُه ونستغفرُه ونعوذُ بالله من شرور أنفسِنا ومن سيئات أعمالِنا من يهدهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لهُ ، ومنْ يُضْلِل فلا هاديَ لهُ ، وأشْهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أنّ محمدا عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أيها الناس / أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) فتقوى الله عونٌ ونُصرةٌ، وعلمٌ وحكمةٌ, وخروجٌ من الغم والمحنة، وتكفيرٌ للذنوب ونجاةٌ في الآخرة .
عباد الله / روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( يَا أَبَا سَعِيدٍ ، مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا ،َبِالْإِسْلَامِ
دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ . فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعِيدٍ ، فَقَالَ : أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ ، فَفَعَلَ ... الحديث ))
هذا الحديث حديث عظيم ،وطريق موصل إلى جنة النعيم ،ولذلك تعجب
منه الصحابي الجليل والإمام المجاهد ، مفتي المدينة سعد بن مالك الخزرجي والمكنى
بأبي سعيد الخدري رضي الله عنه الذي شهد الخندق ، وبيعة الرضوان والذي
عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ليجاهد مع المسلمين وكان عمره
ثلاث عشرة سنة، قال: فجعل نبي الله يصعد في النظر ويصوبه ثم قال لأبيه: رده،
فرده لصغر سنه. ،وهو معدود في الصحابة المكثرين من رواية الحديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم، فالرضاء بالله ربّاً ، وبالإسلام ديناً ،وبمحمد صلى الله عليه
وسلم نبيّاً هو سكينةُ النّفس، وهداية القلب، وهو منارُ السّالكين ، وأمَل اليائسين
، وأمانُ الخائِفين ، ونُصرة المجاهدِين، وهو بشرَى للمتّقين ومِنحَة للمحرومين،
ولذلك ثبت في صحيح مسلم من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبًّا،
وَبِالإِسْلامَ دِيناً، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً )) فالإيمان له طعم وحلاوةٌ داخليّة، تسري في
القلب سَرَيان الماءِ في العود، فلا يشعر صاحبها بأرَقَ ولا قلق، ولا يحس بضِيق
ولا ضجر، يعيش في سعَة، ويتقلب في رضًا ونعمة، (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ((
وقد ذكر ابن القيم فيما معناه : أن هذان الحديثان عليهما مدار مقامات الدين ، وإليه
تنتهي ، وقد تضمنا الرضا بربوبيته سبحانه وألوهيته ، والرضا برسوله والانقياد له ،
والرضا بدينه والتسليم له ، ومن اجتمعت له هذه الأربعة فهو الصديق حقا . وهي
سهلة بالدعوى واللسان ، وهي من أصعب الأمور عند الحقيقة والامتحان ، ولا
سيما إذا جاء ما يخالف هوى النفس ومرادها .
فالرضا بإلهيته يتضمن الرضا بمحبته وحده ، وخوفه ، ورجائه ، والإنابة إليه ،
والتبتل إليه ، وانجذاب قوى الإرادة والحب كلها إليه ، وذلك يتضمن عبادته
والإخلاص له .
والرضا بربوبيته يتضمن الرضا بتدبيره لعبده ، ويتضمن إفراده بالتوكل عليه ،
والاستعانة به ، والثقة به ، والاعتماد عليه ، وأن يكون راضيا بكل ما يفعل به .
فالأول يتضمن رضاه بما يؤمر به . والثاني يتضمن رضاه بما يُقدَّر عليه.
.وأما الرضا بنبيه رسولا فيتضمن كمال الانقياد له ، والتسليم المطلق إليه ،بحيث
يكون أولى به من نفسه ، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته ،ولا يحاكم إلا إليه ، ولا يحكم عليه غيره ، ولا يرضى بحكم غيره ألبتة ، لا في شيء من أسماء الرب
وصفاته وأفعاله ، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته .
وأما الرضا بدينه فإذا قال ، أو حكم ، أو أمر ، أو نهى : رضي كل الرضا ، ولم
يبق في قلبه حرج من حكمه ، وسلم له تسليما ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها.
ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم ، وجنة الدنيا ، ومستراح العارفين ، وحياة
المحبين ، ونعيم العابدين ، وقرة عيون المشتاقين . انتهى كلامه رحمه الله .
فإذا صحَّ الإيمان بهذه الثلاث، ووقر الإيمان بها في القلبِ، فاضَت ثمراتها على حياة صاحبها، إن مشَى على الأرضِ مشى سويًّا، وإن سار سار تقيًّا، محبوب عند الله وعند الناس،قال الله في الحديث القدسي (( فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ )) رواه البخاري
فاتقوا الله عباد الله ، وآمنوا بالله ورسوله ، واستمسكوا بدين الله الذي ارتضاه لكم ، أسأل الله تعالى أن يرزقنا إيماناً صادقاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وتوبة نصوحاً قبل الممات ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل ...
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلَىْ إِحْسَاْنِهِ ، وَالْشُّكْرُ لَهُ عَلَىْ تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَاْنِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَاْ إِلَهَ إِلَّاْ اللهُ ، وَحْدَهُ لَاْ شَرِيْكَ لَهُ تَعْظِيْمَاً لِشَأْنِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ الْدَّاْعِيْ إِلَىْ رِضْوَاْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَعَلَىْ آلِهِ وَأَصْحَاْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً كَثِيْرَاً .
عباد الله / لقد جعل الله فاتحة العام الهجري شهرًا عظيمًا مباركًا هو شهرُ اللهِ المحرم، أحدُ الأشهر الحُرُم التي قال الله فيه(إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ )) وقد بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضلَ الإكثار من صيام النافلة فيه، فقد روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال(أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ(( رواه مسلم.
ومن الأزمنة ـ يا عباد الله ـ التي خصّها الشرعُ الحكيم بمزيد فضلٍ في شهر الله المحرم يوم عاشورا،فعن أبي قتادةَ رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صيام يومِ عاشورا فقال((أحتسبُ على اللهِ أن يكفرَ السنةَ التي قبله(( رواه مسلم
ويوم عاشوراء كما قررت المحكمة العلياء ببلادنا يصادف يوم السبت فمن صام هذا اليوم وأتبعه صيام الغد فقد أصاب يوم عاشورا ، ومن صام يوم السبت لوحده جاز له ذلك كما أفتى بذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله ، ومن صام يوم السبت ويوم بعده فقد خالف بذلك اليهود ، والأمر في ذلك واسع ، أسأل الله تعالى أن يتقبل منكم ومنا صالح الأعمال ، هذا وصلّوا وسلّموا رحمكم الله على من أمر الله بالصلاة والسلام عليه .....
المفضلات