الحمدُ للهِ الذي اهتدى بهديه ورحمتِهِ المهتدون ، وضلَّ بعدلِهِ وحكمتِهِ الضالون ، ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، بلّغَ الرسالةَ ، وأدّى الأمانةَ ، ونصحَ الأمّةَ ، وجاهدَ في اللهِ حقَّ جهادِهِ ، وتركَنا على المحجّةِ البيضاءِ ، ليلُها كنهارِها ، لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ . صلى اللهُ عليه ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ وأتباعِهِ ، وسلّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدينِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً): أمَّا بعدُ ، فإن من نعمِ اللهِ علينا ، هذا الهواء الذي نتنفَسُهُ، ولِشِدِّة الحاجة إليه جعله الله مَبذُولاً مُتاحاً للمخلوقاتِ في كل مكان ، وبدون ثمن أو مال، ولكن عندما يتلوّث هذا الهواء بالقدر الذي لا يمكن الإفادة منه فإن حال الناس تصبح صعبة وحرجة تصل ربما إلى حالات من الإغماء أو الاختناق، وتتأثّر حياتهم إذا هبّت ريح عاصف، ويرتفع عدد المرضى لا سيما أصحاب الحساسية والربو إذا تعالت حبات الغبار والأتربة، فيزيد الضرر فتكون حياة الناس في خطر. وفي هذه الأيام توالت على بعض المناطق في البلاد رياح شديدة مصحوبة بأتربة كثيفة تأذى منها الناس وتضرروا، ولا تزال إلى الآن تهبّ ريح عاتية بأمر ربها, ونحن البشر والله ضعفاء، نحن أضعف ما يكون، الله عز وجل لما أرسل هذه الغبرة علينا عَدلاً منه جل وعلا، إنما أرسل جزءا يسيرا لا يعدّ ولا يذكر من جند الريح، الله جل وعلا لما أرسل على عاد الريح العقيم (مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات: 42]، ما أرسل عليهم جل وعلا ـ كما ثبت في سنن الترمذي ـ إلا مثل فتحة الخاتم ، من هذه الجند، ونحن لما هبت هذه الرياح ، أغلق الواحدُ مِنَّا على نفسه أبوابه وشبابيكه، ولولا فضل الله عز وجل ، إذ أُوجِدَت هذه المكيفات ، لماتَ النَّاسُ اختناقاً من هذه الرياح. أَلاَ مَا أكثر العبر ، وما أقل الاعتبار! ألا ما أشد قسوة القلوبِ ، وغفلة العباد ، عن آيات الله وقدرته! والأخطار الجسيمة تحيط بهم من كل جانب، الفساد ظهر في البر والبحر، وربّنا يذكّرنا بآياته الدائمة والطارئة ؛ لعلنا نرجع مما نحن فيه، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41] إن المعاصيَ سببُ الكوارث والعواصف والرياح والمحن، وطريق التعاسة والشقاء، ما حلت في ديارٍ إلا أهلكتها وأضعفتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله أمةً من الأممِ إلا بذنبٍ ومعصية، فكم دعانا القرآن الكريم ، إلى الاعتبارِ، بما حلّ بمن قبلنا وبمن حولنا ، لِنَتَعِظَ ولِنَقِفَ عندَ حُدودَ الله فلا نَتعدَّاها:يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ (فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون) فتأمل ذلك المشهد المفزع ، في كتاب الله، يرسمه لينظر إليه من أراد العبرة: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ * تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر *فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ) ، فسبحان من قدَّر ذلك عليهم! وسبحان من خوَّف عباده وأنذرهم بالنذر والآيات! (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاّ تَخْوِيفًا) [الإسراء: 59]. وكل هذه وقعت ولا تزال تقع رأي العين في مشارق الأرض ومغاربها،بسببِ الذنوبِ والمعاصي فَكُلَّ شرٍّ في الدُّنيا والآخرةِ ، فأساسُهُ ارتكابُ القبائحِ والموبقاتِ ، وسببُهُ اجتراحُ المعاصي والسيئاتِ.فكم أزالتْ الذنوبُ والمعاصي من نعمةٍ ، وكم جَلَبتْ من نقمةٍ، وكَمْ أحلَّتْ من مَذلّةٍ وبَليةٍ . إن الريح جند من جنود الله تعالى التي لا يقاومها شيء، فإذا خرجت عن سرعتها المعتادة بإذن ربها دمرت المدن وهدمت المباني واقتلعت الأشجار وصارت عذابا على من حلت بدارهم. فلما عتا قوم عاد وقالوا: (مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت: 15] أرسل الله عليهم الريح العقيم، فقال جل وعلا: (وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ *مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) قال البغوي: هي التي لا خير فيها ولا بركة، ولا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا، ما تذر من شيء أتت عليه من أنفسهم وأنعامهم ومواشيهم وأموالهم إلا جعلته كالرميم؛ أي: كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يبس وديس. قال مجاهد: كالتبن اليابس. وقد سماها الله تعالى: (عَاتِيَةٍ) في قوله: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) [الحاقة: 6]، قال المفسرون: عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة. وقيل: عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب. كيف لا وهي جند من جنود الله ينصر بها من يشاء من عباده المؤمنين كما حصل في غزوة الخندق؟! قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: هي الصَّبَا كفأت قدورهم ونزعت فساطيطهم ـ أي: خيامهم ـ حتى أظعنتهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله :{ نُصِرْتُ بِالصَّبَا ، وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ } والصَّبَا: هي الرِّيحُ الشرقية، والدَّبُور: هي الرِّيحُ الغَربية. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله إذا كان يوم الريح والغيم عرف ذلك في وجهه، وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرّ به، وذهب عنه ذلك، قالت عائشة: فسألته، فقال: { إِنِّى خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ عَذَابًا سُلِّطَ عَلَى أُمَّتِى } رواه مسلم. وكان النبي إذا عصفت الريح قال: { اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا وَخَيْرَ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا وَشَرِّ مَا أُرْسِلَتْ بِهِ } رواه مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم
ونفعنا وإيَّاكُم بما فيه من الآيات والذكرِ الحَكيم ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقهِ وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وحدهُ لا شريكَ لهُ ، تعظيماً لشانه ، وأشهد أنَّ نبينا محمّداً عبده ورسولُه ، الدّاعي إلى رضوانه ، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه ، وسلّم تسليماً مزيداً : أمّا بعدُ أيُّها الأحبة ، نَقَلَ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ عن عبدِ الله بن عمرو رضي الله عنهُما قال: (الرياح ثمانية: أربعة منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة: فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وأما العذاب: فالعقيم والصرصر وهما في البر، والعاصف والقاصف وهما في البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة؛ فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحا للسحاب تلقحه بحمله الماء كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حركه بحركة العذاب؛ فجعله عقيما وأودعه عذابا أليما، وجعله نقمة على من يشاء من عباده؛ فيجعله صرصرا وعاتيا ومفسدا لما يمر عليه) وقد قال الله عن قوم صالح عندما أرسل عليهم الريح: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، فلم يظنوا في السحابة التي أظلتهم سوى أنها ظاهرة كونية قد تتسبب في نزول المطر، خاصة وأنهم كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر، ولكن لم تكن هذه الغمامة سوى العذاب.ألا فَلنَتقِ الله ، ولنأخذ بأسباب النجاة؛ فإن هلاك الإنسان ونجاته مقيد بما كسبت يداه، ولنعتبر بمن حولنا، ولنتعظ بما يجري بالأقوام من غيرنا، كان عبد الله بن مسعود يحدث في المسجد: [إِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ، وَإِنَّ السَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ] عبادَ الله : صلُّوا رحمني الله وإيَّاكم ، على المبعوثِ رحمةً للعالمين فإِنَّهُ يقول { مَن صَلَّى عَلَىَّ صَلاةً صلَّى اللهُ عليهِ بِهاَ عشراً } اللهم صلِّ وسلمْ وأنعمْ وأكرمْ وزدْ وباركْ ، على عبدِك ورسولِكَ محمدٍ ، وارضَ اللهم عن أصحابِهِ الأطهارِ ، ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ ، أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين ، وعن التابعينَ وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ ، وعنَّا معَهم بمنِّكَ وفضلِكَ ورحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ .اللهم أعزَّ الإسلامَ المسلمينَ ، ودمرْ أعداءَ الدينِ من اليهودِ والنصارى ، وجميعِ الكفرةِ الملحدينَ ، اللّهُم يا عظيمَ العفوِ ، ويا وسعَ المغفرةِ ، ويا قريبَ الرّحمةِ ، ويا ذا الجلالِ والإكرامِ ، هبْ لنا العافيةَ ، في الدُنيا والآخرةِ ، اللّهُم اجعلْ رزقَنَا رغداً ، ولا تُشمتْ بنا أحداً ، اللهم إنا نسألُكَ ، بعزِّكَ الذي لا يرامُ ، وملكِكَ الذي لا يُضامُ ، وبنورِكَ الذي ملأ أركانَ عرشِكَ ، أن تكفيَنا شرَّ ما أهمَنا وما لا نهتمُ به ، وأن تعيذَنا من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا ، اللهم رَغّبْنا فيما يبقى ، وَزَهّدْنا فيما يفنى ، وهبْ لنا اليقينَ ، الذي لا تسكنْ النفوسُ إلا إليهِ ، ولا يُعوَّلُ في الدينِ إلا عليهِ ، اللهم اجعلْ بَلدَنا هذا آمناً مطمئناً ، وسائرَ بلادِ المسلمينَ ، اللهم أيدْ إمامَنا بتأيدِكَ ، وانصرْ بهِ دينَكَ ، ووفقْهُ إلى هُدَاكَ ، واجعلْ عمَلَهُ في رضاكَ ، وارزقْهُ اللهم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ ، التي تدلُهُ على الخيرِ ، وتعينه عليه، اللهم أرحمْ موتانا ، وعافي مُبتلانا ، واقضِ الدينَ عن مدينِنا ، وردَّ ضالَنا إليكَ رداً جميلاً ، ( رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) ، عبادَ اللهِ إن اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذا القربى وينهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي يعظُكم لعلكم تذكرونَ ( وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ
المفضلات