الخطبة الأولى : فضل " حسبي الله ونعم الوكيل "
الحمد لله أحمده وأستعينه ، وأستغفره وأستهديه ، وأومن به ولا أكفره،وأعادي من يكفر به ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحقّ والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرّسل ، وقلّة من العلم وضلالة من النّاس وانقطاع من الزّمان، ودنوّ من السّاعة ، وقرب من الأجل.
من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى وفرّط وضلّ ضلالا بعيدا .وإنّ خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله ، واحذروا ما حذّركم الله من نفسه فإنّ تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربّه ، عون صدق على ما تبغون من أمر الآخرة . أمّا بعد عباد الله ، فكثيرا ما يقول المسلم في مواقف كثيرة
" حسبي الله ونعم الوكيل " ، وهو قول من أعظم الأدعية الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة ، ويمكننا تفصيل الحديث عن هذا الدعاء في الجوانب الآتية :
أولا : دليل مشروعيته
وردت مشروعيته في القرآن الكريم في حكاية الله عز وجل عن الصحابة الكرام في أعقاب معركة أُحُد ، في " حمراء الأسد "، وذلك حين خوَّفهم بعضُ المنافقين بأن أهل مكة جمعوا لهم الجموع التي لا تهزم ، وأخذوا يثبِّطون عزائمهم ، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانا بوعد الله ، وتمسكا بالحق الذي هم عليه ، فقالوا في جواب جميع هذه المعركة النفسية العظيمة : حسبنا الله ونعم الوكيل .
يقول عز وجل : ( الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ . الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) آل عمران/172-174.
بل ورد في صحيح البخاري رحمه الله (رقم/4563) أن تلك الكلمة كانت على لسان أولي العزم من الرسل ، قالها إبراهيم عليه السلام في أعظم محنة ابتلي بها حين ألقي في النار ، وقالها سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم في مواجهة المشركين في " حمراء الأسد ".
عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال :
( حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ : قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا : ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ )
ثانيا : معنى هذا الدعاء
يقول العلماء إن معنى : حسبنا الله : أي الله كافينا ، فالحسب هو الكافي أو الكفاية ، والمسلم يؤمن بأن الله عز وجل بقدرته وعظمته وجلاله يكفي العبد من كل ما أهمه وأصابه ، ويرد عنه بعظيم حوله كل خطر يخافه ، وكل عدو يسعى في النيل منه .
وأما معنى : ( نعم الوكيل )، أي : أمدح من هو قيِّم على أمورنا ، وقائم على مصالحنا ، وكفيل بنا ، وهو الله عز وجل ، فهو أفضل وكيل ؛ لأن من توكل على الله كفاه ، ومن التجأ إليه سبحانه بصدق لم يخب ظنه ولا رجاؤه ، وهو عز وجل أعظم من يستحق الثناء والحمد والشكر لذلك .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" أي : الله وحده كافينا كلَّنا " انتهى من " منهاج السنة النبوية " (7/204)
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" ( حَسْبُنَا ) أي : كافينا في مهماتنا وملماتنا ، ( وَنِعْمَ الْوَكِيل ) إنه نعم الكافي جل وعلا ، فإنه نعم المولى ونعم النصير .
ولكنه إنما يكون ناصرا لمن انتصر به واستنصر به ، فإنه عز وجل أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، فإذا اتجه الإنسان إليه في أموره أعانه وساعده وتولاه ، ولكن البلاء من بني آدم ، حيث يكون الإعراض كثيرا في الإنسان ، ويعتمد على الأمور المادية دون الأمور المعنوية " " شرح رياض الصالحين " (1/542)
ثالثا : فضل هذا الدعاء .
هو من أعظم الأدعية فضلا ؛ وأعلاها مرتبة ، وأصدقها لهجة ؛ لأنه يتضمن حقيقة التوكل على الله عز وجل ، ومَن صَدَق في لجوئه إلى ربه سبحانه حقق له الكفاية المطلقة ، الكفاية من شر الأعداء ، والكفاية من هموم الدنيا ونكدها ، والكفاية في كل موقف يقول العبد فيه هذه الكلمة يكتب الله عز وجل له بسببها ما يريده ، ويكتب له الكفاية من الحاجة إلى الناس ، فهي اعتراف بالفقر إلى الله ، وإعلان الاستغناء عما في أيدي الناس .
ومع ذلك ، فننبه إلى أنه لم يرد في حديث خاص أن من قالها كان له من الأجر كذا وكذا ، لكن قول الله سبحانه وتعالى : ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ) الطلاق/3، ؛ دليل على أن من توكل على الله حق التوكل ، وعده الله سبحانه أن يكفيه ما أهمه ، ويكون حسيبه وحفيظه ، فلا يحتاج إلى شيء بعده ، وكفى بذلك فضلا وثوابا ؛ فإن من كفاه الله سَعِدَ في الدنيا والآخرة بقدرة الله وعزته وحكمته ، ولذلك قال تعالى في الآية الأخرى : ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) الأنفال/49، بل كان جزاء المؤمنين في أعقاب " أُحُد " حين قالوا هذه الكلمة أن رجعوا بفضل الله عز وجل وكرامته وحفظه : ( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) آل عمران/174. ينظر: " زاد المعاد " (2/330)
رابعا : مواضع مناسبة الدعاء بـ " حسبنا الله ونعم الوكيل "
يناسب هذا الدعاء كل موقف يصيب المسلم فيه هم أو فزع أو خوف ، وكذلك كل ظرف شدة أو كرب أو مصيبة ، فيكون لسان حاله ومقاله الالتجاء إلى الله ، والاكتفاء بحمايته وجنابه العظيم عن الخلق أجمعين .
وقد ورد في ذلك حديث ضعيف جدا عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِذا وَقَعْتُمْ فِي الأَمْرِ العَظِيمِ فَقُولوا : حَسْبُنا الله وَنِعْمَ الوَكِيلُ ) رواه ابن مردويه ، انظر " سلسلة الأحاديث الضعيفة " (رقم/7002).
وأفضل حالا منه حديث يرويه سَيْف ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لَمَّا أَدْبَرَ : حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ . فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ يَلُومُ عَلَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ عَلَيْكَ بِالْكَيْسِ ، فَإِذَا غَلَبَكَ أَمْرٌ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) رواه أبوداود (رقم/3627) .
والحديث ضعيف أيضا ، ضعفه العلماء بسبب جهالة سيف ، قال النسائي : سيف لا أعرفه . كما في " السنن الكبرى " (6/160) وإن كان العجلي قال فيه : شامي تابعي ثقة ، ولكن العلماء لا يعتمدون على توثيق العجلي ، وضعفه الألباني في " ضعيف أبي داود ".
ولكن معناه صحيح ، تشهد له الأحاديث الصحيحة الواردة في الباب ، منها حديث أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنَ وَاسْتَمَعَ الإِذْنَ مَتَى يُؤْمَرُ بِالنَّفْخِ فَيَنْفُخُ ، فَكَأَنَّ ذَلِكَ ثَقُلَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُمْ : قُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ ، عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنَا )
رواه الترمذي (رقم/2431) وقال : هذا حديث حسن، وقد روي من غير وجه هذا الحديث عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. وصححه الألباني في " صحيح الترمذي "، وفي " السلسلة الصحيحة " (رقم/1079)
ولذلك بوب النسائي على هذا الدعاء بقوله : " مَا يَقُول إذا خَافَ قوما " انتهى من " عمل اليوم والليلة " (ص/392)
وذكره ابن القيم رحمه الله في " الفصل التاسع عشر في الذكر عند لقاء العدو ومن يخاف سلطاناً وغيره " انتهى من " الوابل الصيب " (ص/114)
ونلاحظ مما سبق أن هذا الدعاء يمكن أن يقال في مواجهة المسلم الظالم ، وليس فقط الكافر ، كما يمكن أن يلجأ إليه المهموم أو المكروب أو الخائف بسبب تعدي أحد المسلمين .
وأما الظالم الذي قيل في حقه هذا الدعاء فليس له إلا التوبة الصادقة ، وطلب العفو ممن ظلمهم وانتهك حقوقهم ، ورد المظالم إلى أهلها ؛ وإلا فإن الله عز وجل سيكون خصمه يوم القيامة ، وغالبا ما يعجل له العقوبة في الدنيا ، فإن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب .
نسأل المولى العزيز الحكيم أن يقينا المظالم والشرور ، وأن يجعلنا من الصابرين المحتسبين بجاه المصطفى الأمين ، إنّه سميع قريب مجيب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
الخطبة الثانية : فضل النظر للمصحف الشريف عند التلاوة
الحمد لله المُتوحِّد في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المُتفرِّد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المُتعالي بعظمته ومجده الذي نزَّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله المُؤيَّد بالمُعجزات، والمنصورُ من ربِّ البريَّات، عليه من الله أفضلُ صلاةٍ وأزكى تسليمٍ، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد عباد الله ، فمن المسائل الفقهية المتصلة بشهر العبادة والصيام، شهر رمضان المعظّم مسألة صلاة التراويح ومشروعيّة إمامة المصلين بحمل المصحف الشريف والنظر إليه.
نقول والله المستعان ، ففي التاج والأكليل أورد المواق: "من المدونة أجاز الإمام مالك أن يؤم الإمام بالناس في المصحف في قيام رمضان وكره ذلك في صلاة الفرض".
وقال الخرشي في شرحه لمختصر خليل: "يعني أنه يكره قراءة المصلي في المصحف في صلاة الفرض ولو دخل على ذلك من أوله لاشتغاله غالبا ويحوز ذلك في النافلة إذا ابتدأ القراءة في المصحف".
وعليه، فلا كراهة في حمل المصحف في التراويح بالنسبة للإمام أو المأمومين عند المالكية خصوصاً إذا ترتب على ذلك مزيد خشوع وحضور القلب في الصلاة.
ومما يدل على ذلك أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كان يؤمها عبد لها يكنى أبا عمرو٬ وفي رواية عن ابن أبي شيبة والبخاري معلقا أنه
كان يؤمها في المصحف
وروى عنها أنها أمرت مولاها ذكوان أن يؤمها فى رمضان بالمصحف ولأن القراءة من المصحف فى الصلاة فى قيام رمضان مرويه عن أنس وجمع من التابعين كابن سيرين وعطاء والحسن البصرى وعائشة بنت طلحة ولأن الزهرى حين سئل عن الرجل يصلى لنفسه أو يؤم قوما هل يقرأ من المصحف ؟ قال : (( نعم , لم يزل الناس يفعلون ذلك منذ الإسلام )). وفى لفظ: (( كان خيارنا يقرؤون فى المصاحف )).
قال النبي صلى الله عليه وسلّم من أدام النظر في المصحف, متعه الله ببصره ما بقي في الدنيا)) ). [فضائل القرآن وتلاوته: 145](م)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من سره أن يحبه الله , فليقرأ في المصحف)) ).[فضائل القرآن وتلاوته: 146](م)
عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس ، عن عمر رضي الله عنه: " أنه كان إذا دخل بيته , نشر المصحف فقرأ فيه"). [فضائل القرآن: ](م)
قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: ما أحب أن يمضي علي يوم ولا ليلة لا أنظر في كلام الله عز وجل يعني القرآن في المصحف.). [السنة: 1/ 147] (م)
عن عبد الله بن مسعود: " أنه كان إذا اجتمع إليه إخوانه نشروا المصحف فقرؤوا، وفسر لهم" ).[فضائل القرآن: ](م)
أما عن المفاضلة بين قراءة القرآن من المصحف وقراءته على ظهر قلب :
فقال الإمام النووى رحمه الله: {قراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر القلب...}
قال أبو زكريَّا يَحْيَى بْنُ شَرَفٍ النَّوَوِيُّ (ت: 676هـ): ([فصل]
قراءة القرآن من المصحف أفضل من القراءة عن ظهر القلب لأن النظر في المصحف عبادة مطلوبة فتجتمع القراءة والنظر، هكذا قاله القاضي حسين من أصحابنا وأبو حامد الغزالي وجماعات من السلف.
ونقل الغزالي في الإحياء أن كثيرين من الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقرؤون من المصحف ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف.
وروى ابن أبي داود القراءة في المصحف عن كثيرين من السلف، ولم أر فيه خلافا).[التبيان في آداب حملة القرآن: 98]
هذه إخوة الإيمان بعض مواقف السلف والخلف في قراءة القرآن من المصحف الشريف وفضله نقلا عن رسول الله والله أعلم.
نسأل الله العليم الحكيم أن يزيدنا علما وينفعنا بما علّمنا وأن لا يجعل منّا محروما من حكمته وعلمه إنذه وليّ التوفيق.
المفضلات