الخطبة الأولى
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد :
أيها الناس / أوصيكم ونفسي بتقوى الله فاتقوا الله تعالى
(( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ))
عباد الله / حديثُنا اليومَ عنْ رجلٍ بَهَرَ النّاسَ بِشجاعتهِ ، وفاق الْكثيرَ بِقيادتهِ ، وأبْهرهُم بِبيانهِ وحكمتهِ ورأيهِ ، منْ أعْظمِ النّاسِ جَناناً ، وأصْدَقِهِمْ هُدًى وبياناً ، نَفضَ غُبارَ الوثنيةِ فَلحقَ بدينِ سيّد البشرية صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فكان في أول إسلامه داعية فنادى في قومه أنْ لا عز إلا بالإسلام ولا حياة إلا بالإيمان فرفع صوته ليُسمع قومة فقال : يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ ؟ قَالُوا : سَيِّدُنَا فَضْلًا ، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً ، قَالَ : فَإِنَّ كَلَامَكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ ، رِجَالُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ ، حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ . قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا بَقِيَ فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إِلَّا وَأَسْلَمُوا .
إنه سعدُ بنُ معاذ الأشهلي الأوسي الأنصاري البطلُ الشهير ، وصاحبُ العقل الكبير ، الأميرُ القائد ، والبطل المجاهد الذي خرج من رعيل لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((الأنصارُ لا يُحِبُّهم إلا مؤمنٌ، ولا يُبْغِضُهم إلا منافقٌ ، فمنْ أحَبَّهـُم أحبّه اللهُ، ومنْ أبْغَضَهُم أبْغَضَهُ اللهُ )) متفق عليه
عباد الله / في معركة بدرٍ ذاتِ المعْلمِ العريق والتاريخ المنير التقى الحقُّ بالباطل محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجنْدُه مع أبي جهل وجنْدِه في معركة يفوق الباطل على الحق عددا وعدة ، وقبل المواجهة استشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر رضي الله عنه وقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فتكلم وأحسن، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد سماع هؤلاء القادة الثلاثة: ((أَشِيرُوا عَليَّ أَيُّهَا النَّاسُ(( فَفَطِنَ قائدُ الأنصار سعدُ بنُ معاذ رضي الله عنه لِما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: وَاَللَّهِ لَكَأَنَّكَ تُرِيدُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ((أَجَلْ )) قَالَ : فَقَدْ آمَنَّا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ ، وَشَهِدْنَا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ هُوَ الْحَقُّ ، وَأَعْطَيْنَاكَ عَلَى ذَلِكَ عُهُودَنَا وَمَوَاثِيقَنَا ، عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، فَامْضِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَا أَرَدْتَ فَنَحْنُ مَعَكَ ، فَوَاَلَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ، لَوْ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هَذَا الْبَحْرَ فَخُضْتَهُ لَخُضْنَاهُ مَعَكَ ، مَا تَخَلَّفَ مِنَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، وَمَا نَكْرَهُ أَنْ تَلْقَى بِنَا عَدُوَّنَا غَدًا ، إنَّا لَصُبُرٌ فِي الْحَرْبِ ، صُدُقٌ فِي اللِّقَاءِ . لَعَلَّ اللَّهَ يُرِيكَ مِنَّا مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُكَ ، فَسِرْ بِنَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ . فَسُرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ سَعْدٍ ، وَنَشَّطَهُ ذَلِكَ . ثُمَّ قَالَ : ((سِيرُوا وَأَبْشِرُوا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَعَدَنِي إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ، وَاَللَّهِ لَكَأَنِّي الْآنَ أَنْظُرُ إلَى مَصَارِعِ الْقَوْمِ )) الله أكبر – عباد الله - لقد سطّر سعدٌ بهذه الكلمات الطيبة البيعةَ الصادقةَ، واليقينَ الثابت لنُصرة دين رسوله صلى الله عليه وسلم مهما كلّف الأمر ،؛فهم لم يقاتلوا لأجل بقاء ضريح ولا لأجل حجر أو عتبات أو لأجل حكم وسلطان ، وإنما قاتلوا استجابةً لأمر الله سبحانه وتعالى القائل (( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ )) وقوله فتنة أي لا يكون هناك افتتان بعبادة غير الله تعالى مِن أصنام أو أضرحة أو قبور أو أولياء أو غير ذلك مما يُعبد من دون الله.
بعد كلام سعدِ بنِ معاذٍ رضي الله عنه رفرفت بيارقُ العزِّ والنصر والسعادة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معه من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين .
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ((وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ))
بَاْرَكَ اللهُ لِيْ وَلَكُمْ بِاَلْقُرَّآنِ اَلْعَظِيْمِ ، وَنَفَعَنِيْ وَإِيَّاْكُمْ بِمَاْ فَيْهِ مِنَ اَلآيَاْتِ وَاَلْذِّكْرِ اَلْحَكِيْمِ ، أَقُوْلُ قَوْلِيْ هَذَاْ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُوْرِ اَلْرَّحِيْمِ .
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلَىْ إِحْسَاْنِهِ ، وَالْشُّكْرُ لَهُ عَلَىْ تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَاْنِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَاْ إِلَهَ إِلَّاْ اللهُ ، وَحْدَهُ لَاْ شَرِيْكَ لَهُ تَعْظِيْمَاً لِشَأْنِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ الْدَّاْعِيْ إِلَىْ رِضْوَاْنِهِ صَلَّى اللهُ عَلِيْهِ وَعَلَىْ آلِهِ وَأَصْحَاْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمَاً كَثِيْرَاً .
أيُّها الْمـــــُسْلمون : وفي يوم الخندقِ يصاب سعدُ بنُ مُعاذٍ رضي الله عنه ، فَتَدْنُو لحظاتُ الموتِ ، ويتّسِعُ البلاءُ بسعدٍ رضي الله عنه ، لكنّه لا يَفْقِدُ الأملَ ، ولا يتذرّعُ بالْوَجَعِ، بلْ يَصْنَعُ الطُّمُوحَ في وقْتِ الْجِراحِ ، ويَنثُدُ القِممَ بِعِلوِّ الهمم ، ويُبقي العزِيمةَ ولا يرْضَى الهزيمةَ ؛ لكنّ لحظاتِ الموتِ قدْ دنت فقالَ سعدٌ : اللهم إن كنتَ أبقيتَ من حرب قريشٍ شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قومَ أحبّ إليَّ من أن أجاهدهم فيكَ من قوم آذوا نبيّك وكذبوه وأخرجوه ، اللهم إن كنتَ وضعتَ الحربَ بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تُمتني حتى تَقرَّ عيني من بني قريظة . رواه أحمد بسند حسن .
ثمَّ اشتدّ بسعدِ بنِ معاذٍ المرضُ ، فجعلَ له النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبَّةً في المسجد لِيعودَهُ فيها لعظيمِ صلاحِهِ وجهادِهِ وغَيْرَتِهِ على دينه ؛ فازداد الجُرْحُ وانْفَجَرَ دُمّلُه ، فمات ، فنزل سبعونَ ألفَ ملَكاً لِيُشَيّعُوا جِنَازَتَهُ أكْثرُهُم لمْ ينْزلْ منَ السّماءِ قَطٌّ ، فخرج رسولُ الله صَلّى اللهُ عَليْهِ وَسَلّمَ يجرُّ رداءَه ويُسْرِعُ في مِشْيته ، والصحابةُ من حوله تكادُ تَتَقَطّعُ نِعالُهُم وتَسْقُطُ أرْدِيَتُهم ، وهُو يقولُ صَلّى اللهُ عَليْهِ وَسَلّمَ (( أخافُ أنْ تَسْبِقَنَا الْمـــَلائِكةُ إليْهِ ، فَسَارَ صَلّى اللهُ عَليْهِ وَسَلّمَ في جِنازتِهِ ، فلمّا وُضِعَ في قبره تغيّروجهُ رسولِ الله صَلّى اللهُ عَليْهِ وَسَلّمَ ثمّ سبّح ثلاثاً ، فَسبّحَ الصّحابةُ الّذينَ معهُ ، ثمّ كبّرَ فَكبّروا حتىّ ارتجَّ البقيعُ ، ثم قال صَلّى اللهُ عَليْهِ وَسَلّمَ (( هَذا العبدُ الصّالحُ الذِي اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمنِ لِمــَوْتَهِ ، وفُتِحَتْ لهُ أبْوابُ السَّماءِ ، وَنَزَلَ سَبْعُونَ أَلْفاً مِنَ الْمَلائِكَةِ لِتَشْيِيِعِهِ ! لَقَدْ ضُمَّ عليْهِ الْقبرُ ضَمّةً لوْ نَجَا منْها أحدٌ لَنَجَا مِنْها سَعْد ))
فما السّرُّ الْعظيم الذي أدركَ بهِ سعدٌ هذه المناقبَ بعد موتهِ ؟ إنّه الصِّدْقُ مع الله ، والاخلاصُ له بصالحِ العملِ ، واليقِينُ الثّابتُ بموعودِ الله ؛ معَ حُسنِ الصحْبةِ ، وعِظَمِ المحبّةِ وصِدْقِ المُتابَعةِ لِرسولِ الله صَلّى اللهُ عَليْهِ وَسَلّمَ ، فكمْ منَ النّاس – عبادَ اللهِ – لمْ يَكُنْ في مُجْتَمَعِهِ مَعْروفاً ولا مَشْهوراً وعندَ موته لايْشَيّعهُ إلا الْقليلُ ، ولكنْ تَسْبِقُ لِتشْيعِهِ ملائِكُةُ السّماءِ ، وتُفَتّحُ لهُ أبْوابُ السّماءِ قبْلَ أنْ يُودَعَ في قبْرهِ ، فَحَرِيٌ بِنا أنْ نعْملَ لهذهِ اللّحْظةِ المُنْتَظَرةِ الْعَجِبَة ،أعُوذُ باللهِ منَ الشّيطانِ الرّجيمِ (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ )) هَذَا وَصَلُّوا وَسَلّمُوا عَلى مَنْ أَمَرَ اللهُ بِالصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ))
المفضلات