الحمدُ للهِ الذي استخلصَ الحمدَ لنفسِهِ ، واستوجبَهُ على جميعِ خلقِهِ ، الذي ناصيةُ كلِّ شيءٍ بيديهِ ، ومصيرُ كلِّ شيءٍ إليهِ ، القوي في سلطانِهِ ، اللطيفُ في جبروتِهِ ، لا مانعَ لما أعطى ، ولا معطيَ لما منعَ ، أشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ هو وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسولهُ ، وصفوتُهُ من خلقِهِ ، وأمينُهُ على وحيهِ ، صلى الله وسلم وباركَ عليه وعلى آله وأصحابهِ الطيبين الطاهرين : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً):أمّا بعد:يقولُ تبارك وتعالى ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ) لقد مضى من عمُرِ الزّمنِ عامٌ ، عامٌ كامِلٌ ، تقلّبتْ فيهِ أحوالٌ ، وَفَنَيتْ فِيهِ أَعمارٌ، ونَزَلتْ فيهِ بالأمّةِ نَوازِلُ ، نوازلٌ تَقْضُّ مَضَاجِعَ أولي الألبابِ ، وتَهُزُّ أفئدتَهم، وتُدمى قلوبَهم ، فكم شُرِّدَ من أقوامٍ ، وقُتِلَ آخرين ، وَكَمْ شَقِيَ مِن أُناسٍ ، وسَعِدَ آخرينَ ؟ كمْ طفلٍ قَد تَيتَّمَ ، وكم امرأةٍ قد تَرَمَّلَتْ ، وكَمْ مِنْ مُتأهلٍ قد تأيَّمَ ، وكم من مَريضٍ قد تعافا ، وسليمٍ قد توفى ، وكم من أهلِ بيتٍ شيعوا ميتَهم ، وآخرونَ زَفُّوا عرَائِسَهُم ، دارٌ تَفرَحُ بمولودٍ ، وأُخْرى تُعزَّى بمفقودٍ . وهذه سُنَّةُ الحياةِ ، أعوامٌ تمضي ، وأزمنةٌ تنقضي ، وفي ذلك آياتٌ لأولي الألبابِ ،ها نحنُ ودعنا عاماً كامِلاً ، استودَعنا فيه أعمالاً، تُنشرُ يومَ الحشرِ أمامَنا،يقولُ تعالى (يُنَبَّأُ ٱلإِنسَـٰنُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ) [القيامة:13]ويقولُ سُبحانَهُ( وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) بِسُرعَةٍ رهيبةٍ مضى هذا العامُ وانقضى ، فَما أعظمَ ما حَوى ، لأنَّ اللياليَ والأيامُ ، خزائنٌ للأعمالِ ، ومَرَاحِلٌ للأعمارِ، تُبلي الجديدَ ، وتقرِّبُ البعيدَ، أيامٌ تمرُّ، وأعوامٌ تتكرّر، وأجيالٌ تتعاقَبُ على دروبِ الآخرةِ، فهذا مقبِلٌ وذاكَ مدبرٌ، والكلُّ إلى اللهِ يسيرُ، يقولُ المصطفى : {كلُّ النَّاسِ يَغدو، فبائعٌ نفسَهُ فَمُعْتِقُها أو مُوبِقُها}وفي الدهرِ آلامٌ تنقلِبُ أفراحاً، وأفراحٌ تنقلبُ أتراحاً، أيامٌ تمرُّ على أصحابِها كالأعوامِ، وأعوامٌ تمرُّ على أصحابِها كالأيامِ، واللبيبُ ، مَنْ اتَّخذَ في ذلك عبرةً ومدَّكرًا، قالَ سبحانَهُ: (يُقَلّبُ ٱللَّهُ ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأوْلِى ٱلأبْصَـٰرِ) [النور:44]..فانظرْ في صحائفِ أيّامِكَ التي خلتْ؛ ماذا ادَّخرتَ فيها لآخرتِكَ؟ واخلُ بنفسِكَ وحاسبْها حسابَ الشريك الشّحيحِ، فَالرشيدُ الْمُسدَّد ، مَن وقَفَ مع نفسِهِ ، وقفةَ حسابٍ وعتابٍ؛ يُصَحِّحُ مَسِيرتَها ويتداركُ زلَّتَها، يتصفَّحُ في ليلِهِ ، ما صدَرَ من أفعالِ نهارِه ، فإن كان مَحمُوداً أمضاهُ، واستبَقَ بما شاكلَهُ وضاهاهُ، وإن كان مذموماً استدرَكَهُ ، وانتهَى عن مثلِهِ في المستقبلِ؛ لأنَّه مسافرٌ، سفَرَ من لا يعودُ، يقولُ ابن حبان: "أفضلُ ذوِي العقولِ منزلةً أدومُهم لنفسِهِ محاسبةً"وإن غيابَ محاسبةِ النفسِ ، نذيرُ غرقِ العبدِ في هواهُ، وما أردَى الكُفَّارَ في لُججِ العَمى ، إلا ظنُّهم أنّهم يمرحونَ كما يشتهونَ بلا رقيبٍ، ويفرحونَ بما يهوَونَ بلا حسيبٍ، قال سبحانه عنهم: (إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً) [النبأ:27]. ويقولُ سُبحانهُ (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الحجر:3) فيا أيها السامِعُ لِما أقول ، إنَّ معرفةَ العبدِ نفسَهُ ، وأنَّ مآلَه إلى القبرِ ، يُورِثُهُ تذلّلاً وعبوديةً للهِ، فلا يُعجَبُ بعملِهِ مهما عَظُمَ، ولا يحتقِرَ ذنباً مهما صغُرَ، فنشكو إلى اللهِ ، ضعفَنا وفُتورنا ، ونسألُهُ عَزَّ وجلّ ، أن يرحمَ ضعفَنا ويغفرَ خطايانا ، واللهِ لوكانتِ المحاسبةُ للنفوسِ قائمةً ،لما رأيتَ معصيةً ، ولما رأيتَ شركًا ولا نفاقًا ، ولا رأيتَ غيبةً ولا نميمةً ، ولا رأيتَ رِبًا ، ولا زنًا ، ولا خمرًا ، ولا غشًا ولا خداعًا ، ولا ظلمًا ولا جورًا ولا عُدوانًا، ولا ما حصلتْ مشاكلٌ في مالٍ ، ولا ما قامتْ منكراتٌ لم تَسْبِقْ فيمن سَبَقَ من العالمينَ ، لو كانتِ المحاسبةُ للنفوسِ قائمةً ، لكانَ الحالُ غيرَ الحالِ ، ولرأيتَ الصلاحَ في البَشَرِ ، ورأيتَ الصلاحَ في العبادِ وفي البلادِ ، ولكنَّ كثيرًا من الناسِ غافلونَ عن محاسبةِ أنفسِهم ، يقولُ أبو الدرداءِ رضي الله عنه : ( لا يتفقَّهُ الرجلُ كُلَّ الفِقْهِ ، حتى يَمقُتَ النَّاسَ في جنبِ اللهِ ، ثم يرجِعَ إلى نفسِهِ ، فيكونَ لها أشدَّ مقتًا)وإذا جالستَ الناسَ ، فكُنْ واعظاً لِقَلبِكَ، فالخلقُ يراقبونَ ظاهرَكَ، واللهُ يراقبُ باطنَكَ، ومن صحَّحَ باطنَهُ في المراقبةِ والإخلاصِ ، زيَّنَ اللهُ ظاهرَهُ في المجاهدةِ والفلاحِ. و{ الكيِّسُ من دانَ نفسَهُ وعملَ لما بعدَ الموتِ والعاجزُ من أتبعَ نفسَهُ هواها وتمنَّى على اللهِ الأماني }هكذا قالَ ، وإذا أرادَتْ ، أن تقومَ لديكَ المحاسبةُ للنَّفسِ ، لتنبعثَ في نفسِكَ خشيةُ اللهِ عز وجل ، والخوفُ من عذابِهِ ، والرجاءُ فيما عندَهُ ، فلتكثرْ من قراءةِ سيرةِ رسولِ اللهِ وسيرةِ أصحابِهِ رضي اللهُ تعالى عنهم ، والتابعينَ لهم بإحسانٍ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ ، لِتَعرِفَ كيفَ كانوا مع أنفسِهِم ، وكيفَ كانتْ محاسبتُهم لها ، لعلَّ ذلك يُساعدُكَ على محاسبةِ نفسِكَ ومراقبتِها ،بارك الله لي ولكم في القرءان العظيم
الحمد لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهَد أن محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً مزيداً : أمّا بعد : أيُّها الأحبةُ في الله : كَمْ فَقْدنَا في عامِنا المنصّرِم من أُناسٍ كانوا معنا ؟ هجَمَ عليهِم هادِمُ اللَّذاتِ ، ومُفرقُ الجَماعاتِ ، خرجوا من الدُّنيا ، خُروجاً يُنَبّه الغافلينَ ، ويحثُّ الطائِعينَ ، فمنهم من هجمَ عليه الموتُ ، وهُوَ نائِمٌ عن الصلاةِ المكتوبةِ ، ومنهم من قُبِضَ وهو سكرانٌ ، ومنهم من قُبِضَ وهُوَ يَزني ، ومن النَّاسِ من قُبضَ وهو يُلبي ، والآخرُ قُبِضَ وهو يُردِدُ كلمة التوحِيد ، والآخرُ قُبِضَ وهو ساجِدٌ في السَّحرِ ، فهذه أحوالٌ تُنبِّهُ الغافِلينَ ، فـ ( يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ) وسوفَ يأتي اليومُ ، الَّذي يرى فيه كُلٌ مِنَّا بضاعتَهُ (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) ( يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) في الصحيحينِ ، من حديثِ عَديِ بنِ حاتمٍ رضي اللهُ عنهُ :يقولُ عليه الصلاةُ والسلامُ {كلٌ مِنكُم سيُكلِّمُهُ اللهُ ليس بينَهُ وبينَ اللهِ تُرجمانٌ ، فينظرُ عن يمِينِهِ فلا يرى إلاَّ ما قدّمَ ، ثُم ينظرُ عن شمالِهِ فلا يرى إلاَّ ما قدَّمَ ، ثُم ينظُرُ تلقاءَ وجهِهِ فلا يرى إلاَّ النَّارَ ، فاتقوا النَّارَ ، ولوا بِشقِّ تمرةٍ } ويقولُ عليه الصلاةُ والسلامُ كما عند الترمذي من حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه مرفوعاً {مَا مِنْ مَيِّتٍ مَاتَ إلاَّ نَدِمَ ، إِنْ كانَ مُحْسِناً نَدِمَ ألاَّ يكونَ ازدادَ ، وإن كانَ مُسيئاً نَدِمَ ألاَّ يكونَ استعتبَ } عبادَ اللهِ ، يقولُ المصطفى {أتاني آتٍ من ربي عزّ وجلّ فقالَ من صلى عليكَ من أُمتِك صلاةً كتبَ اللهُ لهُ بها عشرَ حسناتٍ ، ومحا عنه عشرَ سيئاتٍ وَرَفعَ لهُ عشرَ درجاتٍ ، وردَّ عليه مِثلَها} اللهم صلِ وسلَّمْ وأنعمْ وأكرمْ ، وزدْ وباركْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ وارضَ اللهم عن الخلفاءِ الأئمةِ الحُنفاءِ ، أبي بكرٍ وعُمرَ وعُثمانَ وعلي وعن سائرِ أصحابِ نبيك أجمعين وعن التابعينَ وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وعنا معهم بِمنِك وفضلِكَ ورحمتِكَ يا أرحمَ الرحمين ، اللهم أعزَ الإسلامَ والمسلمينَ ، وأذلَّ الشركَ والمشركين ودمرْ أعداءَ الدينِ ، من اليهودِ والنصارى وجميعِ الكفرةِ والمُلحدين ، اللهم اكتبْ لأهلِ هذا الدينِ عزاً ونصراً واجعلْ لمن عاداهُ ذلةً ومهانةً وقهراً ، اللهم ثَبتْنا على نهجِ الاستقامةِ ، وأعذْنا من موجباتِ الحسرةِ والندامةِ يومَ القيامةِ ، وخفَّفْ عنَاّ ثُقلَ الأوزارِ وارزقنا عيشةَ الأبرارِ، وانظمْنا في سلكِ حزبِك المُفلحين ، وأتممْ علينا نعَمَتَك الوافيةَ ، وارزُقْنا الإخلاصَ ، في أعمالِنا والصَّدقَ في أقوالِنا ، وعُدْ علينا بإصلاحِ قُلُوبِنا وذُرِّيَتِنَا ، واغفرْ لنا ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين ، برحمتِك يا أرحمَ الرحمين (ربنا آتنا في الدُنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقنا عذابَ النارِ ) عبادَ اللهِ إن اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ وإيتاءِ ذي القربى وينهى عن الفحشاءِ والمنكرِ والبغي يعظُكم لعلكم تذكرون فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكرْكم واشكروه على نعمِهِ يزدْكم ولذكرُ اللهِ أكبرُ واللهُ يعلمُ ما تصنعون
المفضلات