الخطبة الثانية : المشتاقون للجنة

الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلا ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلميتخذوا سواها شغلا وسهل لهم طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللا و كمّل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولا.الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا و باعث الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل والحمد لله الذي رضى من عباده باليسير من العمل وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة و ضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
أما بعد عباد الله،:فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ،ولم يتركهم سدى
بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم عُرِض على السموات والأرض والجبال فأبين
وأشفقن منه إشفاقاً ووجلا وحمله الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً والعجب كل العجب من غفلةِ من لحظاتُه معدودة عليه وكل نفَس من أنفاسه إذا ذهب لم يرجع إليه وإنما يتبين سفه المفرط يوم الحسرة والندامة إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً فالأولون في روضات الجنة يتقلبون وعلى أسرّتها يجلسون وعلى بطائنها يتكئون ، وأولئك في أودية جهنم يصطلون ، جزاء بما كانوا يعملون.
ومن هنا اشتاقت نفوس الصالحين إلى الجنة حتى قدّموا في سبيل الوصول إليها كلَّ ما يملكونهجروا لذيذ النوم والرقاد ، وبكوا في الأسحار، وصاموا النهار ،وجاهدوا الكفار ،فلله كم من صالح وصالحة اشتاقت إليهم الجنة كما اشتاقوا إليها من حسن أعمالهم ، وطيب أخبارهم ، ولذة مناجاتهم ،وكان لكل واحد منهم ، ولكل واحدة منهن مع الله جل جلاله أخبار وأسرار ، لا يعرفها غيره أبداً، جعلوها بين أيديهم عُدداً لا يطلبون جزاءهم إلا منه ، فطريقهم إليه ،ومعوّلهم عليه ، ومآلهم يكون بين يديه فلا إله إلا الله .. كم بكت عيون في الدنيا خوفاً من الحرمان من النظر إلى وجه الله الكريم فهو سبحانه أعظم من سجدت الوجوه لعظمته ،
وبكت العيون حياءً من مراقبته ، وتقطعت الأكباد شوقاً إلى لقائه ورؤيته فالمشتاقون إلى الجنة لهم مع ربهم تعالى أخبار وأسرار.
ومن ذلك ما أورده ابنُ الجوزي رحمه اللهفي "صفة الصفوة" وابنُ النحاس رحمه الله في "مشارع الأشواق" عن رجل من الصالحين اسمه أبو قدامة الشامي ..
وكان رجلاً قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه ، فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال :
يا أبا قدامة أنت رجل قد حُبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو.
فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك :
خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها )فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينةٍ في العراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي ، ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله ،فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ،فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق عليّ ،فلنا فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها ،
فقلت : ما تريدين ؟ قالت : أنت أبو قدامة ؟ قلت : نعم ،قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟ قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية .
فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها : "إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن مافيَّ وهما ضفيرتاي و أنفذتهما إليك لتجعلهماقيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي" .
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها، وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة
فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ،فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : "يا أباقدامة يا أبا قدامة ، قف عليَّ يرحمك الله "،قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم
يحرمني صحبتك ولم يردّني خائباً ،فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم
للقتال . فقلت له : أسفِر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك .
فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة. فقلت له : يا بني عندك والد ؟ قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي .قلت : أعندك والدة ؟قال : نعم ، قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها. فقال : أما تعرف أمي ؟ قلت : لا ،
قال : أمي هي صاحبة الوديعة ، قلت : أي وديعة ؟ قال : هي صاحبة الشكال ، قلت : أي شكال ؟ قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟ قلت : بلى ، قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع ..وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر ، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله ، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيَّ ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت رأسها إلى السماء، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي ، هذا ولدي ،وريحانةُ قلبي ، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيه ..
سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد ،فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرمي ، فلا تحقرَنِّي لصغر سني ..
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا، فوالله ما رأينا أنشط منه ، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً ... وما زال يجاهد في سبيل الله حتى أصابه العدوّ إصابة قاتلة، وسمعته يقول :"الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ، فاسمع وصيتي.
قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه ، وأخذت طرف ثوبي أمسح الدم عن وجهه ،فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسح
الدم بثوبي لا بثوبك ، فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك ..
قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً ..
فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة ،
قال المولى سبحانه وتعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (سورة الدخان 51 - 57)
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يدخلنا جنّاته مع الفائزين وأن يجمعنا برسولنا صلى الله عليه وسلّم في حوضه إنّه سميع قريب مجيب.