الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للهِ الْكَرِيمِ الْجَوَّادِ، الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ، الْعَفُوِّ الْغَفَّارِ؛ ذِي الْفَضْلِ وَالْجُودِ وَالْعَطَاءِ، يُجِيبُ الدُّعَاءَ، وَيُحِبُّ السَّخَاءَ، وَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ، وَيَغْسِلُ الْحَوْبَةَ، وَيُبَارِكُ الْحَسَنَاتِ، وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ الشَّعَائِرِ وَالْمَنَاسِكِ، وَمَا عَلَّمَنَا مِنَ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمٍ عَلَيْنَا تَتَابَعَتْ، وَنِقَمٍ عَنَّا تَجَافَتْ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وَعَظِّمُوهُ.. اتَّقُوهُ فَإِنَّهُ خَالِقُكُمْ، وَأَطِيعُوهُ فَإِنَّهُ رَازِقُكُمْ، وَعَظِّمُوهُ فَإِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ، لَا حَوْلَ لِلْعِبَادِ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ، وَلَا مَفَرَّ لَهُمْ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ))
عباد اللّه ِ/ تعيشُ الأمةُ الإسلاميةُ أَيَّامًا فَاضِلَةً ، أَيّامًا مِن أَفضَلِ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ، بَل هي بِنَصِّ الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَفضلُهَا، قالَ صلى الله عليه وسلم (( أفْضَلُ أيّامِ الدّنيا أيّامُ الْعَشْرِ )) صحّحه الألبانيُّ رحمه اللهُ من حديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنه .
إِنها الأَيَّامُ التي فِيهَا يَومُ عَرَفَةَ الذي هو هذا اليوم ، اليَومُ التَّاسِعُ مِن ذِي الحِجَّةِ ، والّذِي يُوافِقُ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَكَانَ يَوْمُ الْوَقْفَةِ هَذَا مُوَافِقًا لِوَقْفَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ؛ فَإِنَّهُ وَقَفَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ.
عبادَ اللهِ / يَومُ عَرَفَةَ لَا يَوْمَ كَالْيَوْمِ، ولَا عَشِيَّةَ كَعَشِيَّتِهِ، فِي الِاجْتِمَاعِ لِتَعْظِيمِ اللهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ وَشُكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ؛ فَأَهْلُ الْمَوْسِمِ وُقُوفٌ الْآنَ بِعَرَفَةَ فِي جُمُوعٍ عَظِيمَةٍ مَهِيبَةٍ؛ شُعْثًا غُبْرًا فِي دُعَاءٍ وَتَضَرُّعٍ وَبُكَاءٍ، يَسْأَلُونَ رَبَّهُمْ حَاجَاتِهِمْ، وَيُقِرُّونَ لَهُ بِذُنُوبِهِمْ.
يَا لَهُ مِنْ يَوْمٍ فِي نُفُوسِهِمْ لَا يَعْدِلُهُ يَوْمٌ! يَا لَهَا مِنْ عَشِيَّةٍ لَا تُمَاثِلُهَا عَشِيَّةٌ! فَاللَّهُمَّ اقْبَلْ مِنَ الْحُجَّاجِ حَجَّهُمْ، وَاسْتَجِبْ دُعَاءَهُمْ، وَأَعْطِهِمْ مَسَائِلَهُمْ، وَلَا تَحْرِمْنَا مِمَّا أَعْطَيْتَهُمْ؛ فَإِنَّكَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ، الْجَوَّادُ الْكَرِيمُ.
وَأَمَّا أَهْلُ الْأَمْصَارِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْتَمِعُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ لِأَدَاءِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، قَدْ صَامُوا هَذَا الْيَوْمِ طَلَبًا لِمَثُوبَتِهِ، وَفِي عَشِيَّةِ هَذَا الْيَوْمِ يَخْلُو كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، يَدْعُوهُ وَيَسْأَلُهُ وَيَسْتَغْفِرُهُ حَتَّى يَحِلَّ إِفْطَارُهُ، قَدِ اجْتَمَعَتْ فِيهِمْ أَسْبَابُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ؛ فَآخِرُ سَاعَةٍ مِنَ الْجُمُعَةِ وَقْتُ إِجَابَةٍ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ مَرْجُوَّةٌ؛ فَيَا للهِ الْعَظِيمِ رَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، كَمْ مِنْ دَعَوَاتٍ سَتُرْفَعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى مِنْ صَعِيدِ عَرَفَةَ؟! وَكَمْ مِنْ دَعَوَاتٍ سَتُرْفَعُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مِنْ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَدُورِهِمْ عَشِيَّةَ هَذَا الْيَوْمِ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا؟!
الْيَوْمُ يَوْمُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ، فَسَلُوا اللهَ تَعَالَى أَنْ يُعْتِقَكُمْ وَوَالِدِيكُمْ وَمَنْ تُحِبُّونَ مِنَ النَّارِ قَالَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمُ الْمَلَائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟)) رواه مسلم
الْيَوْمُ يَوْمُ ذُلِّ الشَّيْطَانِ وَإِصْغَارِهِ، حِينَ يَرَى رَحَمَاتِ اللهِ تَعَالَى تَتَنَزَّلُ عَلَى عِبَادِهِ، وَحِينَ يَرَى عِبَادًا فَتَنَهُمْ وَأَغْوَاهُمْ سِنِينَ عَدَدًا يَغْفِرُ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي تِلْكَ الْعَشِيَّةِ، وَحِينَ يَرَى كَثْرَةَ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ، فَأَرُوا اللهَ تَعَالَى مِنْ أَنْفُسِكُمْ خَيْرًا، وَأَلِحُّوا عَلَيْهِ بِالتَّضَرُّعِ وَالْبُكَاءِ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))
باركَ اللهُ لِي ولكُم في القرآنِ العظيمِ، وَنَفَعَنِي وإيّاكُم بِما فِيهِ مِنَ الآياتِ والذّكْرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَاسْتِغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذنبٍ إنّه هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبةُ الثانِيةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَالْزَمُوا شَرِيعَتَهُ، وَحَقِّقُوا تَوْحِيدَهُ، وَعَظِّمُوا حُرُمَاتِهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى مَا شَرَعَ لَكُمْ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ بِالدِّمَاءِ ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ))
عِبادَ الله / شَرَعَ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ فِي يَوْمِ غَدٍ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِالْأَضَاحِي، وَهِيَ شَرْعُ أَبِينَا الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِدَاءُ أَبِينَا إِسَمْاَعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَسُنَّةُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛كَمَا فِي حَدِيثٍ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: ضَحَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ، فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ . مُتّفقٌ عَليْهِ .
وَمَنْ طَرَأَتْ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَةُ الْيَوْمَ أَوْ غَدًا أَوْ بَعْدَهُ أَوْ ثَالِثَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، أَوْ وَجَدَ سَعَةً مِنْ مَالٍ مَا كَانَ يَجِدُهَا مِنْ قَبْلُ فَلَهُ أَنْ يُضَحِّيَ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْأُضْحِيَةَ إِلَّا وَقْتَ شِرَائِهَا أَوْ ذَبْحِهَا، وَلَوْ كَانَ قَدْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ فِي الْعَشْرِ؛ لِأَنَّ نِيَّتَهُ بِالتَّضْحِيَةِ كَانَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَحْرِمُ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ فَضْلَ الْأُضْحِيَةِ وَأَجْرَهَا، وَكُلُّ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَكْفِيهِمْ أُضْحِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا يُشْرَعُ تَخْصِيصُ الْأَمْوَاتِ بِالْأُضْحِيَةِ، إِلَّا أَنْ يُشْرَكُوا فِيهَا مَعَ الْأَحْيَاءِ.
وَفِي فَجْرِ هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ اجْتَمَعَ التَّكْبِيرُ الْمُقَيَّدُ مَعَ الْمُطْلَقِ، فَالْمُقَيَّدُ يُشْرَعُ أَدْبَارَ الصَّلَوَاتِ، وَالْمُطْلَقُ يَكُونُ فِي كُلَّ وَقْتٍ، وَآخِرُ تَكْبِيرٍ مُقَيَّدٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الثَّالِثَ عَشَرَ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَبِغُرُوبِ شَمْسِهِ يَنْتَهِي وَقْتُ التَّكْبِيرِ الْمُطْلَقِ أَيْضًا، وَيَنْتَهِي وَقْتُ نَحْرِ الْأَضَاحِي وَالْهَدَايَا. فَلْنَحْرِصْ عَلَى التَّكْبِيرِ بِنَوْعَيْهِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَظِيمَةِ.
وَلْنُكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ فِي عَشِيَّةِ هَذَا الْيَوْمِ الْمُبَارَكِ لِأَنْفُسِنَا وَوَالِدِينَا وَأَهْلِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا وَأَحْبَابِنَا، وَلِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ الدُّعَاءِ حَيْثُ سَاعَةُ الِاسْتِجَابَةِ فِي الْجُمُعَةِ الَّتِي وَافَقَتْ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، وَحَيْثُ إِنَّ الصَّائِمَ مَرْجُوُّ الدَّعْوَةِ ؛ وَلْنَدْعُ لِإِخْوَانِنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ الْمُسْتَضَامِينَ الَّذِينَ شُرِّدُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُخِيفُوا وَقُتِّلُوا وَعُذِّبُوا بِغَيْرِ جُرْمٍ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ؛ فَإِنَّهُمْ فِي كَرْبٍ عَظِيمٍ، وَعُسْرٍ شَدِيدٍ، فَرَّجَ اللهُ تَعَالَى كَرْبَهُمْ، وَرَفَعَ بَلَاءَهُمْ، وَكَبَتَ أَعْدَاءَهُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
هَذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا )) اللّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم عَلَى نَبِيّنا مُحَمّدٍ وَعَلى آلِهِ وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ .
المفضلات