خطبة جمعة
بعنوان
( عند أبواب الغفور الرحيم )
كتبها
عبدالله بن فهد الواكد
إمام وخطيب جامع الواكد بحائل
الأولى
الحمد لله الذي جعل التوبة ممحاة للذنوب ومغسلة للقلوب وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أستغفره وأتوب
وأشهدا أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا
( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )
إنَّ حديثَنَا اليومَ ، حولَ قصةٍ عظيمةٍ ، حدثتْ في غابرِ الأزمانِ ، وعفى عليها الزمانُ والمكانُ ، لكنها ظلت قصةً فيها من العبرِ ، وحولُها من المُدَّكرِ ، إنها قصةُ ذلك الرجلِ ، الذي ما مشى في طريقٍ ، إلا ومشى الناسُ في طريقٍ آخرَ ، لا يريدون المشيَ معهُ ، ولا الحديثَ معهُ ، ولا حتى رؤيتَهُ ، إنها قصةُ ذلكمُ الرجلِ ، الذي ملأ جنباتِ قريتِهِ التي كان يعيشُ فيها هلعاً وخوفاً ، فكم سفكَ من دماءٍ ، وكم أزهقَ من أنفسٍ ، وكم رمَّلَ من نساءٍ ، وكم يتَّمَ من أطفالٍ ، يداهُ تقطرُ من الدماءِ ، ورجلاهُ تقفُ بينَ الأشلاءِ ، جاءَ خبرُهُ ، ووردَ ذكرُهُ ، في حديثِ حبيبِنا ونبيِنا محمدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ ، أتدرونَ مَن هو ذلكَ الرجلُ ، إنهُ الرجلُ الذي قتلَ تسعاً وتسعينَ نفساً ، كلُّنا يذكرُ تلكَ القصةَ ، كلُّنا يعلمُ أنَّ نبيَّ الهدى وإمامَ الرحمةِ ، لم يذكرْ تلكمُ القصةَ ، إلا لما فيها من العبرِ ، ولما تحملُهُ من الدروسِ والفكرِ ، إلا ليقفَ أولو الذنوبِ من هذه الأمةِ ، على شفيرِهاَ ، متأملينَ معتبرينَ ، إلا ليقفَ أولو المعاصي من هذهِ الأمةِ ، في بيداءِ هذه القصةِ فاحصينَ ، إنها وإيمَ اللهِ قصةٌ ، تبعثُ في نفسِ المسرفِ ، شآبيبَ الأملِ والرجاءِ ، وتدفعُ في مفاوزِ اليأسِ والقنوطِ ، أنهارَ الأملِ المشرقِ ، والرجاءِ المورقِ ، ( قل ياعباديَ الذين أسرفوا على أنفسِهم لا تقنطوا من رحمةِ اللهِ إنَّ اللهَ يغفرُ الذنوبَ جميعاً إنهُ هو الغفورُ الرحيمُ ) ، ذلكم ُالرجلُ ، أسرفَ على نفسِهِ أيما إسرافٍ ، فما الذي جرى ، أرادَ اللهُ له الخيرَ ، فنبتتْ في قلبِهِ حبةٌ من إيمانٍ ، وسقاهاَ بحبِّ العودةِ إلى اللهِ ، فراحَ يجوبُ الأرضَ ، يبحثُ عن مخرجِ ، أينَ يتَّجهُ ، كيفَ يقبلُهُ ربُّهُ ، في ذمتِهِ تسع وتسعونَ نفساً ، تسع وتسعونَ ، ليستْ نفساً واحدةً ، ولا نفسينِ ، ولا ثلاثةَ ، إنما تسع وتسعونَ نفساً ، يا الله ، كلُّهم قتلى ، إذا كانَ هؤلاءِ همُ القتلى ، فكَمْ باللهِ عليكَ يارجلُ ، كمْ جرحتَ من العبادِ ، وكم خاصمتَ ، وكم ظلمتَ ، وكم اغتبتَ ، وكم سلبتَ ، وكم نهبتَ ، إنها مصيبةٌ عظيمةٌ ، عادَ إلى أهلِ القريةِ ، ياأهلَ القريةِ ، دلوني على أعلمِ أهلِ الأرضِ ، ولِماَ أعلمُ أهلِ الأرضِ ؟ لأنَّ ذنبي عظيمٌ ، لأنَّ جُرمي جسيمٌ ، ولا يستطيعُ أنْ يجدَ لي مخرجاً من هذهِ المصيبةِ ، إلا أعلمُ أهلِ الأرضِ ، ربَّما مَنْ كان علمُهُ يسيراً ، لا يجدُ لي حلاً لهذه المشكلةِ ، يا أهلَ القريةِ ، دلوني على أعلمِ أهلِ الأرضِ . أخذوه إلى راهبٍ ، أخذوه إلى عابدٍ ، وليس إلى عاِلمٍ ، عابدٍ يتعبدُ اللهَ في صومعتِهِ ، فدخلَ عليه ، وجثى عندَ قدميهِ ، يا أيها الرجلُ الصالحُ ، إني قد ارتكبتُ إثماً عظيماً ، فهل لي من توبةٍ ؟ قالَ العابدُ وما صنعتَ ، قال لقد قتلتُ تسعاً وتسعينَ نفساً ، فذُهِلَ العابدُ وقالَ : ماذا تقولُ أيها الرجلُ ، تسعاً وتسعينَ نفساً ، كلَّها قتلتَها ، أخرجْ ، أخرجْ ، أخرجْ من صومَعتي ، ليسَ لك توبةٌ ، فضاقتْ عليه الأرضُ بما رحبتْ ، وأُغلقتْ أبوابُ الأملِ أمامَ ناظريهِ ، فالتفتَ الرجلُ إلى العابدِ وقال : ، ليسَ لي توبةٌ ، فقتَلَهُ وأكملَ به المئةَ ، قتلَهُ نتيجةَ الإفتاءِ بغيرِ علمٍ ، وتفصيلِ الفتاوى ، على شعابِ العقلِ والرأي ، أنظروا أيها الأحبةُ ، مِنْ أينَ تأتي المصائبُ إلى الأمةِ ، ومن أي بابٍ تدلفُ ، عادَ الرجلُ ثانيةً إلى أهلِ قريتِهِ ، بذنوبٍ قد عظمتْ ، وخطايا قد كثرتْ ، يا أهلَ القريةِ ، دلوني على أعلمِ أهلِ الأرضِ ، دلوني على عالمٍ ، فدلَّوهُ هذهِ المرةِ على عالمٍ ، فلما بلغَهُ جثى بين يديهِ ، يا أيها العالمُ ، إنني قد ارتكبتُ جُرماً عظيماً ، قال وما صنعتَ ، قال قتلتُ مائةَ نفساً ، فهل ليَ من توبةٍ ؟ فقالَ العالمُ نعمْ ، ومن الذي يحولُ بينَكَ وبينَ اللهِ ، من الذي يحولُ بينَك وبينَ خالقِكَ ، تأملوا فضلَ العلمِ أيها الأحبةُ ، كيف لا ، ولكَ ربٌّ رحيمٌ برٌّ حليمٌ ، يفرحُ بتوبةِ عبدهِ إذا تابَ ، نعم أيها الرجلُ ، من الذي يحولُ بينك وبينَ ربِّك ، ولكنْ ، أُخرجْ من قريتِكَ ، فإنها قريةُ سوءٍ ، واذهبْ إلى قريةِ كذا ، فإنَّ فيها أناساً يعبدونَ اللهَ ، فاعبد اللهَ معهم حتى يأتيَكَ اليقينُ ، أنظروا وتأملوا أيها الأحبةُ ، فضلَ العالِمِ ، وموقعَ العالمِ ، ومكانَ العالمِ ، لم يكنْ كالعابدِ في صومعتِهِ ، إنما كان في معمعةِ الناسِ ، يعرفُ أحوالَهُم ، ويسمعُ أخبارَهُم ، لم يكن متقوقعاً في مكتبتِهِ ، لم يكن منغلقاً مع خاصتِهِ ، إنما كانَ في زوبعةِ الناسِ ، يتقصى ويسألُ ، ويرى وينظرُ ، وإلا كيفَ يفتي الناسَ ، وهو لا يعرفُ أحوالَهُم ، ولولا هذا لم يعرفْ ذلكَ العالمُ ، أنَّ أهلَ هذهِ القريةِ أهلُ سوءٍ ، وأهلَ تلكَ القريةِ أهلُ خيرٍ ، ولَمَا أرسلَ الرجلَ التائبَ إليهم ، إنَّ العالِمَ ، هو الذي يعرفُ كيف يربي ويرشدُ ، إنه يعلمُ أنَّ ذلكَ الرجلَ ، لو بقيَ في قريتِهِ ، لعادَ إلى القتلِ وسفكِ الدماءِ ، إنَّ كثيراً من الناسِ ، في زمانِناَ هذا ، يريدُ أنْ يرجعَ إلى اللهِ عز وجل ، دون أن يتخلص من ذنوبِهِ ، وملحقاتِهِ التي كانت معَهُ من قبل ، والتي كانت تؤثرُ على حياتِهِ ، يتوبُ ، ولا تزالُ الأشياءُ المحرمةُ في حوزتِهِ ، ، يتوبُ ، ولا يزالُ مع صحبتِهِ الفاسدةِ ، ، قال اخرج من قريتِكَ ، ليس معنى هذا أنْ نغادرَ أوطانَنَا ، ونخرجَ من بلادِنا ، لكنَّ البيئةَ ، والوسطَ والمحيطَ ، لها تأثيرٌ قويٌ ، على توجُّهِ الفردِ وسلوكِهِ ، فالزملاءُ بيئةٌ ، والأصدقاءُ بيئةٌ ، فإن كانت بيئةً صالحةً مباركةً ، عززنا البقاءَ فيها ، وإن كانت غيرَ ذلك ، بحثنا عن بيئةٍ خيرٍ منها ، ، حزمَ الرجلُ أمتعتَهُ ، وسافرَ إلى القريةِ الأخرى ، وفي الطريقِ ، ماتَ هذا الرجلُ التائبُ ، ماتَ ولم يعملْ خيراً قط ، فهل يدخلُ الجنةَ أم النارَ ؟ نزلتْ ملائكةُ الرحمةِ ، ونزلتْ ملائكةُ العذابِ ، وما كنتَ لديهم إذ يختصمون ، أيهُمْ يظفرُ بذلكَ الرجلِ ، ، ملائكةُ الرحمةِ يقولونَ نحنُ أحقُّ بهِ ، إنهُ تائبٌ عائدٌ إلى ربِّهِ ، وملائكةُ العذابِ ، يقولونَ نحنُ أحقُّ بهِ ، إنهُ لم يفعلْ خيراً قط ، فبعثَ اللهُ ملَكاً على هيئةِ رجلٍ ، ولماذَ على هيئةِ رجلٍ ؟ طالما أن المختصمينَ ملائكةٌ ، لماذا أيها الأحبة ؟ إنَّ في ذلكَ تشريفاً وإعلاءً لشأنِ البشرِ ، إنْ هم أطاعوا اللهَ وعبدوه ، فقال الذي بعثه اللهُ على هيئةِ رجلٍ ، قيسوا ما بينَ القريتينِ ، فإلى أيُّهُما كانَ أقربَ ، كانَ بها أحقّ ، وما شأنُ القريتينِ أيها الأحبةُ في مصيرِ الرجلِ ؟ وما علاقةُ المسافةُ بذلكَ ؟ القضيةُ حسناتٌ وسيئاتٌ ، أيها المسلمون ، لأنَّ أهلَ المكانِ ، لهم أثرٌ حتى على المكانِ . قاسوا المسافةَ ، وقيلَ أنَّ اللهَ سبحانه ، قال للقريةِ التي خرجَ منها تباعدي ، وللتي ذهبَ إليها تقاربي ، قاسوا المسافةَ ، فكان لتلكَ أقربُ من هذهِ ، فأخذتْهُ ملائكةُ الرحمةِ ، فدخلَ الجنةَ ، فما أعظمَ رحمةِ اللهِ ، وما أرحبَ عفوَه وغفرانَه ، أيقنَطُ بعد ذلك قانطٌ ، أييأسُ بعد ذلك يائسٌ ، أينتظرُ بعد ذلك منتظرٌ ، دونَ أن يلجَ أبواباً مفتوحةً ، صاحبُها يفرحُ بتوبةِ عبدِه ، يفرحُ فرحاً شديداً ، فأقبلوا على ربِّكم ، ولا تيأسوا من رَوحِ اللهِ ، إنه لا ييأسُ من رَوحِ اللهِ إلا القومُ الكافرون ، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..........................
الثانية
إنَّ من أعظمِ نعمِ اللهِ على عبدِه ، أنْ جعلَ بابَ التوبةِ ، مفتوحاً على مصراعيهِ ، لا يمنعُ المرءَ من دخولِه شيءٌ ، إلا أنْ يدركَهُ الموتُ ، وهو في غفلةٍ ، وهو في بُعدٍ عن ربهِ وخالقهِ ، وهو غارقٌ في الذنوبِ والآثامِ ، فعند ذلك ، لا ينفعُ نفسٌ إيمانُها ، لم تكن آمنت من قبل ، إن التسويفَ أيها الأحبةُ لا ينتهي ، والتأجيلَ لا ينقضي ، فحريٌّ بالعاقلِ الحصيفِ ، أن يدركَ نفسَهُ ، قبل أن يدركَهُ الموتُ ، ( فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب ) ، أيها الأحبة ، أيها الوالدُ الوقورُ ، أيها الأخُ الحبيبُ ، أيها الشابُ الطيبُ ، واللهِ إنكَ من أسعدِ الناسِ ، لأنكَ في مهلةٍ ، وتستطيعُ أنْ تفعلَ شيئاً ، فأهلُ القبورِ ،يتمنونَ أنهم في مكانِنا ، وفي زمانِنا ، وفي مقامِنا هذا ، يكبِّرونَ ويهللونَ ، ويحمدون ويستغفرون ، يصلون ويصومون ، المسيءُ منهم يتوبُ ، والمذنبُ منهم يؤوبُ ، والمحسنُ فيهم يزدادُ ، نسألُ اللهَ أن يتجاوزُ عن سيئاتِنا وسيئاتِهم ، ويرفعَ درجاتِنا ودرجاتِهم ، ألا وصلو وسلموا على خير البريه ، صاحب الروح الطاهرة والنفس الزكية ، صاحب الرسالة المحمديه ، والهداية الربانية ، محمد بن عبدالله ................
المفضلات