خطبة الجمعة : " اغتنم خمسا قبل خمس "
الحمد لله رب الكائنات، المنَزّه عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات ومن وصف الله بمعنىً من معاني البشر فقد كفر.
والصلاة والسلام على خير الكائنات سيدنا محمد وعلى سائر إخوانه النبيين المؤيّدين بالمعجزات الباهرات فبعصا موسى انفلق البحر وبدعاء نوح نزل المطر ولمحمد شهد الشجر والحجر وانشق القمر.أما بعدُ عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله العظيم القائل في محكم التنْزيل:
" يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ واتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ" الحشر /18.
واعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" اغتنم خمساً قبلَ خمسٍ اغتنم حياتَكَ قبلَ موتِكَ وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ وشبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ وغِنَاكَ قبلَ فقرِكَ وفراغَكَ قبلَ شغلِكَ".
إخوة الايمان، إن الإنسان العاقلَ هو من يهتمُّ بما تضمنَه هذا الحديثُ إن عمِلَ خَيْرًا، أطاعَ اللهَ تباركَ وتعالى، تعلمَ الحلالَ والحرامَ وعمِلَ بما تعلَّمَ بأنْ أدَّى الواجباتِ واجتَنَبَ المحرمات، يكونُ له ذخرٌ كبيرٌ في الحياةِ الثانية، الحياة التي بعدَ الموت. فَمَنْ عَمِل لما ينفعُه بعدَ موتِه، لا يندمُ في الآخرة.
كذلكَ منِ اغتنَمَ صحتَهُ قبلَ مرضِهِ يكونُ جمعَ خيرًا كثيرًا، لا يستطيعُ أن يفعلَه في مَرَضِه، لأنَّ المرضَ يمنعُ الإنسانَ من أشياءَ كثيرةٍ كانَ يستطيعُ أن يعملَها في صِحَّتِه.
كذلكَ العاقلُ يغتنِمُ شبابَه قبلَ هَرَمِه، فلا ينبغي أن يكونَ الشابُّ غافِلاً عمَّا يستطيعُ أنْ يفعلَه لآخرتِه قبلَ أن يُدْرِكَه الهرَم.كذلك ينبغي للعاقلِ أن يغتنِمَ غناهُ قبلَ فَقْرِه، المعنى أنَّه يعمَلُ منَ الصالحاتِ في غناهُ قبلَ أن يُصيبَه الفقر. الغنيُّ الذي عندَه المال يستطيعُ أن يعملَ لآخرتِه الشىءَ العظيم، وينفق على الفقراء والمساكين، وقد يبني مسجِدًا لله تعالى فيكون له صدقة جارية أي دائمة. ويستطيع أن يصلَ أرحامَه بالإحسان إليهم مما رزقَه الله. أما إذا لم يفعلْ ذلك حتى أصابَه الفقرُ فيندم يقول يا ليتني عمِلتُ كذا لآخرتي.
قال عليه الصلاة والسلام:" وفراغَكَ قبلَ شغلِكَ" المعنى أنَّ الإنسانَ المسلمَ ينبغي أنْ يغتنِمَ عملَ البرِّ والخيرِ والإحسانِ لما يكون عنده فراغ، قبل أن يذهبَ هذا الفراغُ وينشغل، أي ينشغلُ عما ينفعه في الآخرة.
وأكثرُ الناسِ يُضيِّعونَ هذه النعمَ الخمسةَ ثم منهم من لا ينتبِهُ إلا لما يصيرُ منْ أهلِ القبورِ كما قال سيّدُنا عليٌّ رضيَ الله عنه:" الناسُ نِيَامٌ فإِذا مَاتُوا انتَبَهُوا" معناهُ أنَّ أكثرَ الناسِ نيامٌ، أي غافِلُونَ عمَّا ينفعُهم لما بعدَ الموت، ثم بعدَ الموتِ يعرفونَ فيندَمُون. في حالِ سكَراتِ الموتِ، لما يَيْأَسُ منَ الحياةِ وبعدَ أن يُدفَنَ يَندَمُ، يقولُ يا ليتني أدَّيْتُ ما فرضَ اللهُ عليَّ، واجتَنَبْتُ ما حرّمَ اللهُ عليَّ، هذا معنى قولِ سيِّدِنا عليٍّ رضيَ الله عنه:" الناسُ نِيامٌ فإذا ماتُوا انتَبَهُوا".
وعن عبدِ الله بنِ عمرَ رضي الله عنهما قال: أخذَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: " كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابنُ عمرَ يقول:" إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظرِ المساء، وخُذ من صحتِكَ لمرضِك، ومن حياتِكَ لموتِك". (كن في الدنيا كأنك غريب) أي بعيدٌ عن موطنه، لا يتخذُ الدارَ التي هو فيها مَوطناً، ولا يحدِّثُ نفسَه بالبقاء، وهذه كلمةٌ جامعةٌ لأنواعِ النصائح، إذِ الغريب، لقلِّةِ معرفَتِه بالناس، قليلُ الحسدِ والعداوةِ والحقدِ والنفاقِ والنِّزاع، وسائرُ الرذائل مَنشؤُها الاختلاطُ بالخلائق، ولِقِلَّةِ إقامته، قليلُ الدارِ والبستان والمزرعة والأهلِ والعيال وسائرِ العلائق، التي هي منشأُ الاشتغالِ عن الخالق. (أو عابر سبيل) مار بطريق، وتعلقاتُه أقل من تعلقاتِ الغريب. (خُذ من صحتك لمرضك) أي اشتغل حالَ الصحَّةِ بالطاعات، بقدْرٍ يسدُّ الخلَلَ والنَّقصَ الحاصلَ بسببِ المرض، الذي قد يُقعِدُك عنِ القيامِ بالطاعات. (من حياتك لموتك) اغتنم أيامَ حياتِكَ بالأعمالِ التي تنفعُك عندَ الله تعالى بعد موتِك.
ولْيُعْلَم أنَّ أفضلَ الأعمالِ عندَ اللهِ الإيمانُ باللهِ ورسولِه أي معرفة اللهِ بأنَّه موجودٌ لا يُشبِهُ شَيئًا وأنَّه مُتَّصِفٌ بعلمٍ وإرادةٍ وقُدْرةٍ وسمعٍ وبَصَرٍ وكلامٍ ووجودٍ أزليٍّ غيرِ حادِثٍ ولا يطرأُ عليه التغيُّرُ لأنَّهُ لو كانَ يتغيَّرُ منْ حالٍ إلى حالٍ لم يَكُن إلـهًا لهذا العالم.
واللهُ هو المنفرِدُ بِخَلْقِ الأشياءِ أي إبرازِها من العدَمِ إلى الوجود. الأشياءُ التي لها حجمٌ كالإنسان والأرضِ والنبات، والأشياءُ التي ليست أجسامًا صلبةً كالنورِ والظلامِ كلُّ ذلك هو خالقُه. كذلك حركاتُ الإنسانِ وسكونُه وتفكيراتُه ونواياهُ القلبيةُ كلُّ ذلك هو يخلُقُه ليس العبد يخلقه.
كلُّ أفعالِ العبادِ وحركاتِهم وسكناتِهم التي يفعلونها بإرادةٍ والتي تحصُلُ منهم منْ غيرِ إرادةٍ كلُّ ذلك منَ الله، العبادُ لا يخلقونَ شيئًا. الله تعالى هو خلقَ القلوبَ وهو الذي يحرِّكُها ويُصَرِّفُها كيفَ يشاء.
الرسولُ قال: "اللهُمَّ مُصَرِّفَ القلوب صَرِّفْ قلوبَنَا على طاعَتِك" وقال الرَّسولُ:" إنَّ القلبَ أشدُّ تقَلُّبًا منَ القِدرِ إذا استجمعتْ غَلَيانًا" أي أن تقلُّبات القلوبِ أسرعُ من غلَيانِ الماء في القِدْر، فتقلباتُ القلوبِ التي هي سريعةٌ سرعة عظيمة هو خالقُها فكيف بحركاتِ الرِّجلِ واليدِ واللسانِ كل ذلك بخلقِ الله.
ثم الأمرُ الثاني بعدَ معرفةِ اللهِ كما يجِبُ معرفةُ سيّدِنا محمّدٍ لأنَّه رسولُ الله، وهو صادقٌ في كلِّ ما جاءَ به إلى الناس، إنْ أخبرَ عنِ الماضي بما حصلَ لآدمَ أو مُوسى أو إبراهيم أو نوح أو غيرِهم منَ الأنبياءِ أو تحدَّثَ عن فرعونَ ونحو ذلك، فهو صادق، وكلامُه صحيحٌ لا يحتَمِلُ الكذِب والخطأ. كذلك إذا أخبرَ عما يحصُلُ في المستقبلِ فهو صادق. ويدخُلُ في ذلك ما يحصُلُ للناسِ في القبرِ فمَا أخبرَ عمّا يحصُلُ في القبرِ فهو صادقٌ. وكذلك ما أخبرَ به أنه يحصُلُ بعد الخروجِ منَ القبورِ بعَوْدِ الرُّوحِ إلى الجسَدِ منَ الأهوال ومن الفرحِ والنعيمِ في تلك الدارِ التي لا نهايةَ لها هو صادق.
فمنْ ماتَ وهو على هذا نَجَى يومَ القيامة منَ الخلودِ في النَّار، ومَن ماتَ على هذا معَ أداءِ فرائضِ اللهِ دخلَ الجنةَ بلا عذابٍ فسبيلُ النجاةِ أنْ يتعلمَ ما فرضَ اللهُ وما حرمَ الله. ثم يُؤدِّي ما فرضَ اللهُ ويجتنبُ ما حرمَ الله.
علمُ الدينِ هو سبيلُ النجاة. الذي يطلبُه لوجْهِ الله ثوابُه عظيمٌ. فنسألُ الله تعالى أنْ يعلمَنا ما جهلنا وينفعَنا بما علَّمَنا ويزيدَنا علما.
المفضلات