الخطبة الثانية : وجوب مقاومة الإرهاب

الحمد لله الذي شرّفنا بالإسلام وجعلنا من أمّة خير الآنام، أمّة وسطا مصداق قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)،أما بعد عباد الله ،
الإسلام حرم سفك الدماء وجعلها أشد حرمة من بيته الحرام، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لحرمة دم المسلم أشد عند الله من حرمة الكعبة". كما أن سفك الدماء مِن أعظم الحرمات عند الله سبحانه وتعالى حيث قال تعالى: (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ) (الإسراء:33). و قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء:93)
كما جاء عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لزوال الدنيا أهون على الله من دم مؤمن " قتل المؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا.
أوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت:36]. أقبلوا على ربكم بصدق القلوب، واحذروا الخطايا والذنوب، لعل الله أن يثبِّت لكم في الصادقين قَدَما، ويكتب لكم في التائبين صحيح الندم، فالحسرة كل الحسرة لنفوس ركنت إلى دار الغرور، والخراب لقلوب عمرت بالباطل من العمل والزور.
أيها المسلمون، الابتلاء سنة من سنن الله في هذه الحياة، فدار الدنيا دار بلاء، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ٱلأمَوَالِ وَالأنفُسِ وَٱلثَّمَرٰتِ وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ [البقرة:155]. وهذا الابتلاء ميدان تظهر فيه مكنونات النفوس، ومخفيات الصدور، لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيّبِ [الأنفال:37]، وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ [آل عمران:167]. والمؤمن الصادق شاكر في السراء، ثابت في الضراء.
بسم الله الرحمن الرحيم: الـم أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:1-3]، وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأعراف:168].
في حكمة الابتلاء تستيقظ النفوس، وترقّ القلوب، وتصدق المحاسبة، وفي ساعات الابتلاء يتجلى الثبات في الشديد من اللحظات، وسط صرخات اليائسين، وتبرُّم الشاكِّين، وقلق الشاكين، فَلَمَّا تَرَاءا ٱلْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَـٰبُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبّى سَيَهْدِينِ [الشعراء:61، 62].
وإن الاستقامة على الحق، وملازمة العمل الصالح، من أعظم أسباب الثبات في الأزمات والملمات، وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لآتَيْنَـٰهُمْ مّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَـٰهُمْ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً [النساء:66-68].
ولا تطمئنَّ إلى ثبات من الكسالى والقاعدين إذا أطلت الفتن برأسها، وادلهمّت الخطوب بويلاتها، يُثَبّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ وَيُضِلُّ ٱللَّهُ ٱلظَّـٰلِمِينَ وَيَفْعَلُ ٱللَّهُ مَا يَشَاء[إبراهيم:27].
أيها المسلمون، أيها الناس، إن الأمم الكبيرة قد اعتادت عبر التاريخ أن تجعل من الفواجع والمحن مناسبةً لمراجعة النفس، ومحاسبة الذات، ووسيلة لتقييم الحاضر، واستشراف المستقبل. وإن من العقل والأناة في غمرة المحن أن تصغي الأمة الممتحَنة لأصدقائها وتلقي السمع لناصحيها، وأن تفتح قلبها لشركاء المصير، وأن تكون مستعدة لسماع الحق ولو كان مراً، وأن تتقبل النصح ولو كان مؤلماً.
أيها الناس، عالم اليوم يخوض قضية أقضَّت فيه المضاجع، وأثارت عنده المكنون، وولّدت لديه إفرازات، إنها قضية الإرهاب والإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل.
وبادئ ذي بدء لا بد من التأكيد أن الإرهاب شرّ يجب التعاون على اجتثاثه واستئصاله، كما يجب منع أسبابه وبواعثه، عانت منه دول، وذاقت من ويلاته مجتمعات بدرجات متفاوتات، الإرهابيون يرتكبون فظيع الجرائم عندما يقدمون على قتل الأبرياء، وتدمير الممتلكات، ويفسدون في الأرض. الإرهاب شر كله، وخراب كله، وأحزان كله، وفساد كله. محْترف الإرهاب منحرف التفكير، مريض النفس، ومن ذا الذي لا يدين الإرهاب ولا يمقته ولا يحذّر منه.
الإرهاب يخترق كل المجتمعات، وينتشر في كل الدول بين جميع الأعراق والجنسيات، والأديان والمذاهب، عمليات إرهابية تتجاوز حتى مصلحة منفّذيها، فضلاً عن أنها تكلفهم حياتهم وأرواحهم، عمليات تتجاوز حدود المشروع والمعقول، وتتجاوز تعاليم الأديان، ومألوف الأعراف، وضابط النظم والقوانين.
الإرهاب كلمة مقصورة محصورة في الإقدام على القتل والتخويف، والخطف والتخريب، والسلب والغصب، والزعزعة والترويع، والسعي في الأرض بالفساد.
الإرهاب إزهاق للأرواح المعصومة، وإراقة للدماء المحترمة، من غير سبب مشروع.
الإرهاب لا يعرف وطناً ولا جنساً، ولا ديناً ولا مذهباً، ولا زماناً ولا مكانا، المشاعر كلها تلتقي على رفضه واستنكاره، والبراءة منه ومن أصحابه، فهو علامة شذوذ، ودليل انفراد وانعزالية.
أيها الناس، هذا إبراز لصورته الكالحة، وآثاره المدمّرة، والتأييد العالمي، والتكتل الدولي مطلوب من أجل مكافحته، يجب على كل عاقل بغض النظر عن جنسيته أو ديانته، أو لونه أو هويته، أن يعلن الحرب على الإرهاب الغاشم الظالم. والمسلم حين يُدين الإرهاب، فإنه لا يستمدّ موقفه هذا وإدانته تلك من إعلام الإثارة والتهويل، ولا من الفلسفات الاعتذارية التي تغلب على تفكير بعض قاصري النظر، ولكنها إدانة من مسلم منطلق من إسلامه الذي يمنع قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ويقرن ذلك قرآنه بحق الله في إخلاص التوحيد، والخلوص من الشرك، وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ [الفرقان:68]، مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى ٱلأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً [المائدة:32].
عباد الله، إنّ العملية الإرهابيّة الغادرة التي استهدفت جنودا بواسل مرابطين في سبيل الله يعتبر حدّا فاصلا بين غفلتنا وصحوتنا، وهو حدث جلل لا بدّ أن نأخذ منه العبرة ونخرج منه بموقف في وجه الإرهاب ..مع خالص دعواتنا لشهداء تونس البررة بأن يتقبّلهم الله عز وجلّ في علّيين إنّه سميع قريب مجيب.