الخطبة الثانية : امرأة بألف رجل

الحمد لله ، مُظهرِ الحق ومبديهِ ، ومُنجزِ الوعد وموفيه ، ومسعدِ العبد ومشقيه ، أحمدُه حمداً يليق بكريم وجهه ، وعظيمِ سلطانه ، وعد من أطاعه بنعيم الْجِنانِ ، وتوعّد من جحده وعصاه ، بجحيم النيران ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله ، وصفيُّه وخليلُه ، وخيرتُه من خلقه ، صلى الله عليه ، وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليماً كثيراً
أمّا بعد عباد الله ، فحديثنا في هذه الخطبة الثانية بإذن الله تعالى سيكون عن امرأة مسلمة كان لها شأن في التاريخ الإسلامي.هي أم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنمِ بن عديِ بن النجار الأنصارية.
وهي أخت الصحابية أم سليم، وخالة الصحابي أنس بن مالك، وزوجة الصحابي عبادة بن الصامت، وأخويها الصحابيين سليم وحرام الذين شهدا بدراً وأحداً، واستشهد أخوها حرام يوم بئر معونة، وهو القائل عندما طعن من خلفه برمح: فزت ورب الكعبة، وفوق ذلك كله فهي إحدى خالات الرسول صلى الله عليه وسلم من الرضاع.
أسلمت بعدما عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام على بعض القبائل القادمة من أنحاء الجزيرة العربية، وكان من بين من لقيهم من بني النجار أخوها حرام بن ملحان، وزوجها عبادة بن الصامت، وسمعت حينها بعض آيات القرآن فأسلمت هي وأختها أم سليم. وكانتا من أوائل المسلمات في المدينة.
في قباء بنى النبي صلى الله عليه وسلم أول مسجد في الإسلام، وهو مسجد قباء الذي قال فيه الحق تبارك وتعالى: }لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ{ (التوبة: 108)، وكانت أم حرام تقيم في هذه البقعة المباركة، فهي من أهلها.

وكان النبي صلى الله عليه وسلم حين يذهب إلى قباء يزور أم حرام في بيتها ويقيل عندها ويصلي أحيانا. فقد روى أنس رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم علينا، وما هو إلا أنا وأمي وأم حرام خالتي، فقال: "قوموا فلأصلي بكم"، في غير وقت صلاة، فصلى بنا، فقال رجل لثابت: أين جعل أنسا منه؟ قال: جعله على يمينه. ثم دعا لنا أهل البيت بكل خير من خير الدنيا والآخرة.. (رواه مسلم).
فأي خير أعظم من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لها، والدعاء لها ولأهل بيتها بخير الدنيا والآخرة.
وقد روت عن النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أحاديث، وروى عنها أجلاء الصحابة والتابعين منهم: زوجها عبادة بن الصامت، وعمير بن الأسود، وعطاء ابن يسار، ويعلى بن شداد بن أوس.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب إلى قباء، يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل يوما فأطعمته، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استيقظ يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ فقال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة"، أو قال: "مثل الملوك على الأسرة". يشك إسحق. فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا.
ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ يضحك، فقلت: ما يضحكك يا رسول الله، قال: "ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة"، أو: "مثل الملوك على الأسرة". فقلت: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت من الأولين".. (رواه البخاري).
وباتت أم حرام تنتظر ركب الغزاة لتكون معهم، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راض عنها ولم تزل تنتظر البشارة النبوية إلى أن تحققت في وقت غير بعيد.
ففي خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه سنة (27هـ) ركبت أم حرام البحر في جيش جهزه بقيادة معاوية بن سفيان رضي الله عنه لغزو جزيرة قبرص، فصرعت عن دابتها حتى خرجت من البحر فماتت ودفنت هناك لتحقق بشارة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وهكذا كانت أم حرام من الأولين وتحققت أحلامها بالشهادة، وكتبت في سجل الأوائل فيه أول مجاهدة في البحر وأول من غزا في البحر الأبيض من النساء.
ودفنت رضي الله عنها في جزيرة قبرص، ويعرف قبرها إلى الآن باسم "قبر المرأة الصالحة".
وقد قال عنها أبو نعيم عندما وصفها: حميدة البر، شهيدة البحر، التواقة إلى مشاهدة الجنان.. أم حرام بنت ملحان رضي الله عنها.
نسأل لله لبناتنا ونساءنا أن يكنّ كمثل بنت ملحان في ثبات مواقفها وصلابة دينها ، كما نسأله عزّ وجلّ الحفظ والأمان لأمّة الإسلام .