بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى : ليلة النصف من شعبان
إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما عبد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ثم أما بعد :
أيها المؤمنون اتقوا الله تعالى وراقبوه في جميع تصرفاتكم فالسعيد من حقق درجة الإحسان بدوام استحضار اطلاع الله عز وجل عليه فيعبد الله كأنه يرى الله أمامه فإن لم يستحضر ذلك فليعلم بأن الله تعالى يراه وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور من عباده لا يخفى عليه شيء من أحوالهم كما قال تعالى : ( و مَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس:61) وقال عز وجل : وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الشعراء:220) فكيف يتجرأ على محارم الله من يعلم أن الله سبحانه وتعالى يعلم كل ما يصدر منه من خيٍر أو شر .…
…أيها المؤمنون ! لقد ورد في ليلة النصف من شعبان من طرق كثيرة أحاديثُ صححَّها أهلُ العلم فمن هذه الأحاديث: ما ورد عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يطَّلعُ اللهُ إلى جميع خلقِهِ ليلةَ النصف من شعبان، فيغفرُ لجميع خلقِهِ إلا لمشرك أو مشاحن )[ رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه والبيهقي وغيره وهو في صحيح الترغيب : 3/53)]
وعن أبي ثعلبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (يطَّلعُ اللهُ إلى عباده ليلةَ النصف من شعبان، فيغفرُ للمؤمنين، ويُمهِلُ الكافرين، ويدعُ أهلَ الحقد بحقدِهم حتى يدعوه) [رواه الطبراني والبيهقي ( الترغيب / 3 – 54 ) ]وهو حديث صحيح أيضاً. فهذه الأحاديث أيها المؤمنون فيها إثبات مغفرة الله تعالى في ليلة النصف من شعبان لعباده إلا لمشرك بأي نوع من أنواع الشرك و لمشاحن بينه وبين أخيه هجران وقطيعة.
أيها المؤمنون! وإنه لينبغي لكل منا أن يقفَ مع نفسه وقفةً صادقةً على ضوء هذه الأحاديث ويحاسب نفسه فلعله أن يكون قد ابتُلِي بشيء من الشرك سواء صَغُر أم كبُر وليتدارك نفسه بالتوبة إلى الله عز وجل منه إن كان قد وقع منه شيء من الشرك ولا تقل يا عبد الله إني برئ من هذه الشركيات ولا يوجد عندي شئ منها، أولا يمكن أن أقع فيها، ويكفي أنني أعيش في بلاد التوحيد؛ فإن هذا غرور وجهل من قائله، فلست أكثر توحيداً من نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام خليل الرحمن، فهل تعرف بماذا دعا ربه ؟! لقد دعاه بشئ عظيم، فاستمع معي أيها المؤمن إلى دعائه فيما ذكره الله تعالى عنه في كتابه حيث قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)(ابراهيم: من الآية35)(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ )(ابراهيم: من الآية36)). الله أكبر ! لقد خاف خليل الرحمن على نفسه وعلى بنيه الشرك بالله وعبادة الأصنام وهو الذي كسرها بيده الشريفة لماذا أيها المؤمنون ؟! لماذا خاف على نفسه كل هذا الخوف قال : (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس)، فهذا السبب هو الذي دعاه إلى دعاء ربه أن ينجيَه وبنيه من هذا البلاء العظيم وهذا الشر المستطير الذي وقع فيه كثير من الناس في هذا الزمان ولاحول ولاقوة إلا بالله قال إبراهيم التيمي رحمه الله : ( ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ). وفي هذه الأزمنة عباد الله ! نرى من بعض من ينتسبون إلى الإسلام من يعبد القبور ويطلب منها الشفاعة من دون الله ويذبح لها من دون الله راجيا بركتها أومتقرباً لأصحابها المدفونين تحت الثرى، فصدق عليهم قول الله تعالى: (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف:106) ومن مظاهر الشرك في العبادة ما يفعله بعض من لم يعرف حقيقة التوحيد من تعظيم الأولياء والخضوع والذل لهم والخوف منهم وتعظيمهم أكثر من تعظيمهم وخوفهم وذلهم لله جل
جلاله فتراه بين يدي شيخ طريقته كالميت بين يدي غاسله لا يخالف له أمراً ولا يعصي له قولاً يعتقد أنه مطلع على ما في قلبه فهو لا يضمر سوءاً لزعمه أن هذا الولي له قدرة على الكشف وهذا كفر أكبر والعياذ بالله.
ومنهم من ينذر لغير الله، ومنهم من يحلف بالولي أو بالنبي أو بحياة الآباء والأجداد، ومنهم من يذهب إلى الكهنة والعرافين والمشعوذين والسحرة والمنجمين، فيطلبون منهم الشفاء من الأمراض أو معرفة ماذا سيحصل لهم في مستقبل حياتهم، إن أراد تجارة أو زواجاً أو غير ذلك من الأمور، ومنهم من يقرأ في الأبراج التي تأتي في بعض المجلات أو الصحف أو بعض القنوات فيخبرون بأمور هي من الغيب، فيقولون مثلاً: حظك في برج الجدي أنك ستصبح سعيداً، أو من علامات برج الجوزاء أن صاحبه سيحصل له أمر محزن وهكذا وكلُّه من الكهانة وادعاء علم الغيب الذي هو مضاد لدين الرسل عليهم الصلاة والسلام وهو كفر أكبر والعياذ بالله فهو إن صدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد وإن سأله بلا تصديق له لم تقبل له صلاة أربعين يوماً –قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)(مسلم).
ومن مظاهر الشرك المنتشرة بين الناس تعليقُ التمائمِ الشركيةِ والتعاويذِ البدعيةِ في العنق أو في البيت أو في السيارة أو في غيرها زاعمين أنها تطرد عنهم العين وتدفع عنهم الحسد؛ فهذا يُعَلِّقُ خيطاً في رقبة ابنه، أو في يده، وذاك يضع أوراقاً كتبت علها طلاسمُ وأمورٌ شركية وكلامٌ غيرُ مفهوم مما يُتَقَرَّبُ به إلى الجن حتى وقع الناسُ تحت وطأة هذه الخرافات فزادتهم خوفاً وهماً وقلقاً وحيرة واضطراباً . ومن صور تلك الشركيات ما نراه أمام أعيننا من تعليق قردٍ أو دبٍ أو كلبٍ أو غيرِ ذلك من الحيواناتِ المجسمةِ على السيارة، أو تعليق شيء من ذلك في البيت يظن المسكين بذلك أنها تدفع عنه شرَّ أعينِ الحاسدين وما علم المسكين أنها تُسْخِطُ ربَّ العالمين، فإنَّه إنْ علَّقها من أجل إذهاب العين والحسد عنه أو عن سيارته أو عن بيته؛ فهذا شرك لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ عَلَّقَ تَمِيمَةً فَقَدْ أَشْرَكَ)(أحمد)، ومن الناس من يشرك بالرياء والسمعة وإظهار العمل الصالح أمام الناس من أجل أن يمدحوه أو يقولوا فلان صالح والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه انه قال : (مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ)[مسلم]، فتراه يصلي رياء ويقرأ القرآن رياء ويذكر الله رياء فهذا قد أتعب نفسه وأسخط ربه عز وجل كيف يرجو من يفعل ما تقدم من الأعمال أن ينالوا رحمة الله وهم واقعون في الشرك صغيره أو كبيره ؟!
أما الصنف الآخر من الذين حرموا تلك الليلة من تكفير السيئات ومغفرة الذنوب فهم المشاحنون وأهل الحقد وهذا يدل على خطورة الشحناء والتباغض بين المسلمين، والشحناء : هي حقد المسلم على أخيه المسلم من أجل هوى في نفسه، وذلك يمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة كما جاء في صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا))[مسلم وغيره]، وقد وصف الله المؤمنين عموما بأنهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين امنوا ربنا إنك رؤوف رحيم. ، "وقد فسر الإمام الأوزاعي رحمه الله الشحناء التي تمنع من المغفرة بالذي يكون في قلبه شحناء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن هذه أعظم من الشحناء بين الأقران، وعنه أيضاً أنه قال: المشاحن هو كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة، وقال ابن ثوبان:المشاحن هو التارك لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم الطاعن على أمته السافك لدمائهم، قال ابن رجب رحمه الله: وهذه الشحناء أعني شحناء البدعة توجب الطعن على جماعة المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم كبدع الخوارج والروافض ونحوهم، فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلِّها وأفضلُها السلامةُ من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة وبغضهم والحقد عليهم واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم، ثم يلي ذلك: سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين وإرادة الخير لهم ونصيحتهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه"[لطائف
المعارف لابن رجب: 146].قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة وبهذه الخصال بلغ من بلغ، وسيد القوم من يصفح ويعفو، فأقِل يا عبد الله حتى تُقال واعف عمن المسئ حتى يعفو الله عنك اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد أن تغفر زلاتنا وأن تتجاوز عنا وتقيل عثراتنا وأن تجعلنا ممن غفرت له في هذه الليله ومننت عليه بالعفو والعافية في الدين والدنيا والآخر ة إنك سميع قريب مجيب الدعاء أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم و لاحول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.
المفضلات