الخطبة الأولى : من وصايا الحكيم لقمان

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه ومبلغ الناس شرعه فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ،
أما بعد ، معاشر المؤمنين عباد الله اتقوا الله فإن من اتقى الله وقاه وأرشده إلى خير أمور دينه و دنياه.
عباد الله:
في القرآن الكريم كما نعلم جميعا سورة يقال لها سورة لقمان، في هذه السورة ذكر الله جلّ وعلا خبر عبد من عباده الصاحين و ولي من أوليائه المتقين آتاه الله الحكمة ومن عليه بالبصيرة ووفقه لسديد القول ورشيد العمل ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [لقمان: 12].
إنه رجل صالح و ولي من أولياء الله وحكيم من الحكماء وهبه الله جلّ وعلا الحكمة لأنه كان صادقا مع الله في أقواله وأعماله جادا في التقرب إلى الله عز وجل بزاكي الطاعات وجميل العبادات،كان قليل الكلام كثير الفكرة والتدبر، منَّ الله عليه بالحكمة ووهبه إياها، وإن من عظيم مكانة هذا العبد ورفيع شأنه أن الله عز وجل ذكر لنا في القرآن خبره وأنبأنا عن وصيته لابنه وموعظته لولده وفلذة كبده، وهي عباد الله وصية نوه الله عز وجل بها في القرآن الكريم و ذكر ألفاظ تلك الوصية عن لقمان الحكيم لتكون للآباء والمعلمين والمربين نبراسا وأنموذجا يحتذون حذوه ويسيرون على نهجه، ولهذا عباد الله كان متأكدا على كل أم وعلى كل أب وعلى كل معلم ومربي أن يقف أمام هذه الوصية متأملا ومتدبرا ليأخذ منها الوصايا النافعة والأساليب الناجحة والطرق المفيدة في تربية الأبناء وتعليم النشء، أليس الله جلّ وعلا ذكر لنا موعظة لقمان لابنه في كتابه العزيز ذكرها لنا جلّ وعلا ليس فقط لتكون خبرا نعلمه أو معلومة نفيدها وإنما ذكر الله جلّ وعلا ذلك ليكون منهجا سديدا ومسلكا رشيدا يسلكه الآباء والمربون والمعلمون إذ المسؤولية في التربية عظيمة والواجب جد كبير يتطلب نصحا وعلما وفهما وبصيرة ولهذا عباد الله كان من الجدير بكل أب وبكل أم وبكل معلم ومربي أن يقف أمام هذه الوصية ينهل من معينها ويتزود من حكمها ودلالتها لتكون تربيته لأبنائه وللنشء عن بصيرة وعن حكمة وعن دراية بدين الله جلّ وعلا.
ولقد كانت وصية لقمان الحكيم لابنه موعظة رقيقة وكلمات متدفقة وألفاظ عذبة ووصايا سديدة جاءت بأسلوب الواعظ الناصح المشفق المربي يقول الله جلّ وعلا: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ﴾ [لقمان: 13] والوعظ عباد الله أمر بالخير أو نهي عن الشر مع ترغيب وترهيب، وهكذا جاءت وصية لقمان الحكيم موعظة لابنه يناديه نداء الحنان والعطف والشفقة بعيدا عن الغلظة والشدة والعنف و القسوة يكرر مع ابنه الخطاب بيا بني يرددها عليه مرات وكرات يفتح بها قلبه ويستدعي بها أحاسيسه ومشاعره ويهيئه لحسن الاستفادة وكمال الانتفاع {﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13] وهنا معاشر الآباء و معاشر الأمهات ومعاشر المعلمين والمربين يجب أن ندرك من هذه الوصية العظيمة الرائعة أن أهم ما يربى عليه النشء وتربى عليه الأجيال المحافظة على العقيدة والمحافظة على التوحيد والبعد عن الإشراك بالله تبارك وتعالى فإن هذا أهم المهمات وأعظم المقاصد وأجل الغايات وهو الأساس الذي يبنى عليه الدين وتقام عليه الملة ولهذا بدأ أول ما بدأ لقمان الحكيم في موعظته لابنه بنهيه عن الإشراك بالله جلّ وعلا قال: ﴿لا تشرك بالله﴾ أي بكل صوره وجميع أنواعه فلا تجعل مع الله شريكا في الملك والخلق والرزق والإنعام ولا تجعل مع الله شريكا في أسماء الرب الحسنى وصفاته العظيمة ولا تجعل مع الله شريكا في العبادة التي خلقك الله لأجلها وأوجدك لتحقيقها وبين لقمان لابنه إن الشرك ظلم عظيم فهو أظلم الظلم وأكبر الجرم وأعظم الآثام عباد الله وأي ظلم أشنع وأي جرم أفظع من أن تصرف العبادة لغير الخالق العظيم والرب الجليل سبحانه وتعالى، ولما كان عباد الله مقام الأبوين عظيما ومنزلتهم رفيعة أوصى الله جلّ وعلا في أثناء ذكره لوصية لقمان أوصى بالأبوين برا وإحسانا ورعاية وإكراما فقال جل من قائل ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 14- 15] وهي وصية عباد الله جديرة بالعناية والانتباه والتحقيق والتطبيق، وصية الرب جلّ وعلا بالوالدين وقرن حقهما بحقه سبحانه وشكرهما بشكره سبحانه مما يدل على عظيم المكانة وكبير المسؤولية.
عباد الله:
تأملوا على وجه الخصوص حق الأم لعظم تعبها وكبر نصبها وعظم جهودها في تربية أبنائها ولهذا خصت بالذكر قال جلّ وعلا: ﴿حملته أمُّه وهنًا على وهن وفصاله في عامين﴾ عاشت الأم في تربية الابن أتعابا متواصلة وأوجاعا متلاحقة وهموما متتابعة وهن على وهن وضعف على ضعف وتعب على تعب، أمومة وحمل ورضاعة وملاحظة ورعاية كل ذلك بذلته الأم نحو ابنها، ولهذا عباد الله إذا أراد الإنسان أن يكون بارا بأمه تمام البر فعليه أن يتذكر جميلها السابق و إحسانها المتلاحق كم قدمت الأم لابنها من بر وإحسان ورعاية وإكرام حمل ورضاعة جد واجتهاد سهر وتعب حب ورعاية كل ذلك بذلته الأم وهي محبة لوليدها مشفقة عليه تمام الشفقة، فإذا رعى الابن ذلك ولاحظه أأأاعانه ذلك على برها وأعانه على القيام بحقوقها ولا سيما إذا تذكر مع ذلك أنه سيقف يوما أمام الله وأن الله عز وحل سيسأله عن قيامه بحقوق أبويه ولهذا ختم الله جلّ وعلا هذه الآية بقوله: ﴿إليّ المصير﴾ لقمان: ١٤أي إلى الله جلّ وعلا المرجع والمآل فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
وتأمل أيها الابن وصية الله هنا فيما لو كان الأبوان أو أحدهما مشركا والعياذ بالله يقول الله جلّ وعلا: ﴿وإن جاهداك﴾ أي أبواك ﴿على أن تشرك بي ما ليس لك به علم﴾ و مثل هذا مجاهدة الأبوين للابن على معصية الله والفسق والفجور ﴿وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما﴾ ولم يقل عز وجل فعقهما ﴿فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا﴾.
إذا كانت المصاحبة للأبوين بالمعروف مطالب بها في مثل هذه الحال فكيف إذا كان الأبوان من أهل الصلاة والعبادة والإيمان والبر والإحسان لا شك أن المقام والشأن أجل و أرفع.
ومن جميل وصية لقمان لابنه ووعظه لفلذة كبده أن ربطه بالصلة بالله ومراقبة الله جلّ وعلا في السر والعلن وأخبر ابنه أن الله عز وجل أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا وأن الخطيئة والمظلمة مهما اجتهد المخطئ الظالم في إخفائها فإن الله عز وجل يأتي بها وتكون حاضرة يوم القيامة ﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 16]وهذه عباد الله لفتة كريمة للآباء والمربين في زجر الأبناء وتخويفهم أن يكون التخويف بالله والدعوة لمراقبة الله واستحضار علمه و اطلاعه جل شأنه وعظم سلطانه سبحانه.
ومن وصايا لقمان التي ذكر الله جلّ وعلا أمره لابنه بالصلاة والمحافظة على أركانها وواجباتها ودعوته لابنه للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر رجاء أن يفيد الآخرين وليكون له ذلك حصنا حصينا من دعاة الشر ودعاة الرذيلة والباطل وأوصاه مع هذا كله بالصبر وملازمة الصبر على ما يناله من أذى وأخبره أن ذلك من عزم ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [لقمان: 17] ثم ختم وصاياه النافعة وتوجيهاته المباركة السديدة بدعوة ابنه لرعاية مكارم الأخلاق وجميل الآداب ورفيعها والبعد عن سفساف الأخلاق ورديئها فقال في وصيته لابنه ﴿ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴾ [لقمان: 18- 19] ما أجملها عباد الله من وصية عظيمة وما أروعها من موعظة بليغة يجب علينا أن نقف عندها متأملين متدبرين وأن نأخذ منها نهجا سديدا ومسلكا رشيدا لتربية الأبناء والنشء.
وإن مما يستفاد من هذه الوصية وفوائدها لا حصر لها لكثرتها إن مما يستفاد من هذه الوصية العظيمة عظم حق الأم وأنها أولى الناس بحسن العشرة و المصاحبة وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله" من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك "فذكر الأم ثلاث مرات وذكر الأب في المرة الرابعة وهذا عباد الله يدل على أن حق الأم أعظم ومكانتها أرفع وأجل وأنها أولى الناس و أحقهم بحسن المصاحبة، وهذه المراتب الثلاثة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم للأم في حسن المصاحبة في هذا الحديث الذي سمعناه قد جاءت الإشارة إليها في الوصية التي ذكر الله جلّ وعلا في أثناء وصية لقمان،وتأملوا ذلك رعاكم الله في قوله جلّ وعلا ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ [لقمان: 14]فذكر في شأن الأم مراتب ثلاثة، ألا وهي الأمومة وما تحمله هذه الكلمة من معنى ودلالة والحمل وما يلتحق به من أتعاب وأوجاع والرضاعة وما يلحق الأم بسببها من ضعف وجهد وشدة، فذكر الله عز وجل ثلاث مراتب الأمومة والحمل والرضاعة وكلها من خصوصيات الأم وكلها جميل وإحسان من الأم يتطلب من الابن أن يحفظ الجميل وأن يرد صنائع المعروف وأن يجزي الإحسان بالإحسان فما أعظم حق الأم وما أكبر قدرها ونسأل الله جلّ وعلا أن يوفقنا للبر بآبائنا وأمهاتنا وأن يوفقنا لحسن مصاحبتهم بالمعروف وأن يعيننا على ذلك فإنه ولي التوفيق و السداد.