الخطبة الأولى : رباعية الفساد

الحمد لله العليم الحكيم؛ أمر بالعدل والصلاح، وأثنى على المقسطين المصلحين، ونهى عن الظلم والفساد، وذم الظالمين والمفسدين، ﴿ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 170] ﴿ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77] نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله و عطائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ ابتلى عباده بالفقر والغنى وبالمال والشرف؛ ليميز الأمين من الخائن، والغشاش من الناصح، وقويَ النفس من ضعيفها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ حذّر أمته من استحلال الأموال والحقوق، والغش في المعاملات، وبين أن ذلك يستوجب النار؛ نصحا لأمته، وخوفا عليها، ورحمة بها، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد عباد الله اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه في الأموال والأعمال، وفي كل الشؤون والأحوال؛ فإنكم محاسبون على خير أعمالكم وشرها بمثاقيل الذرّ، فلا يحقرنّ عبدٌ قليلَ خيرٍ فلعل نجاتَه به، وقد دخلت الجنة امرأة وأعتقت من النار بتمرة واحدة شقتها بين ابنتيها، ولا يحقرنّ عبدٌ قليلَ الشرّ؛ فإنّ محقَرات الذنوب إذا أخذ بها صاحبُها أهلكته ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].

أيها الناس: يشيب ابن آدم وقلبه شابّ على طول الأمل وحبّ المال، فليس إدبارُه عن الدنيا مُزهِدا له فيها، وليس إقبالُه على الآخرة مرغِّبا له فيها، إلا من جعل الله تعالى غِناه في قلبه، وهم في الناس قليل.
ولأجل ما فُطِر الناس عليه من حبّ الدنيا، والرّغبة في المال، والتعلّق بالشرف، تضعف ديانةُ كثيرٍ منهم في هذه المواطن، وتضمحل أمانتُهم، وتَشْره نفوسُهم، ويعظُم حرصُهم، فلا يشبِعهم شيء، فيتخوّضون في مال الله تعالى بغير حق، ويستحلّون حقوق غيرهم، ويلجون أبواب الفساد، ويأتون أنواع الحيل؛ لتنمية أموالهم، والإبقاء على مكانتهم.

ورباعية الفساد المالي والإداري في الدول والأمم هي: الرشوة والاختلاس والتزوير والخيانة، وبينها روابط في الإثم، من قارف واحدةً منها تلطّخ بجميعها؛ ذلك أن الإثم يجرّ بعضه إلى بعض، والفساد ينتشر في القلوب التي تتلطّخ بشيء منه.
1)- فأما الرشوة: فإن الراشي يدفع الرشوة للمرتشي ليمنحه ما ليس من حقه؛ فإن مُنح مالا كان نوعا من الاختلاس مكّنته الرشوة منه. وإن مُنح بالرشوة وظيفة لا تنطبق عليه، أو مكانة ليست له، أو شهادة لا يستحقّها، أو مناقصة لا يفي بشروطها، فهذه كلّها خيانة؛ لأن الشخص أعطِي ما ليس له، أو وُضِع في مكان لا يليق به، وهذا أشدّ جرما وإثما، وأعظم ضررا وخطرا على الناس؛ لأنه من إسناد الأمر إلى غير أهله، فيمتد ضرره على كل من تعامل معه.

وفي الرشوة لعن؛ فقد «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالمُرْتَشِيَ» وهي من كبائر الذنوب، وما نتج عنها من مال أو هدايا أو نحوها فهو سُحت يأكله صاحبه، وقد جاء في الحديث الشريف على صاحبه أفضل صلاة وأزكى تسليم : «أيّما لحم نبت من السّحت فالنّار أولى به ".

2)- وأما الاختلاس فلا يكون إلا من شخص تولّى ولاية يكون المال تحته، فيختلس منه ما يَقدر عليه، وقد يطالب بميزانيات لا تحتاجها دائرته ولكن لتصل إلى حسابه في النهاية، إما بأعمال وهميّة غير صحيحة، أو صحيحة ولكنها لا تكلّف عشر الأموال المرصودة لها ، فتراه يزعم أنّ المشروع كلفته مليارا مثلا وهو في الحقيقة لا يتجاوز مائة مليون..والباقي يقتسمه المختلس مع من ساعده وغطّى على سرقاته.

ويعظم ضرر الاختلاسات إن تعلقت بها حقوق الناس، ولا سيما الضعفة منهم، كالأموال المرصودة لإعاشة العجّز يخفضها القائم عليها لأخذ ما تبقى منها، أو لصرفها في مجالات أخرى، وكالأموال المخصصة للأدوية أو أجهزة المرضى في المستشفيات، فيتصرف القائم عليها بشراء أجهزة رديئة أو أدوية بديلة أقل سعرا، ويسجلها بأسعار عالية ليأخذ الباقي، أو يخفض كمية الدواء أو عدد الأجهزة فيتضرر المرضى وربما يموتون بسبب هذه الاختلاسات.
واختلاس المال حرام سواء كان من المال العام أم كان من أموال الشركات والمؤسسات، بل حتى شركات الكفار لا يجوز لمن يعمل فيها أو يتعامل معها أن يختلس شيئا منها، فكفر الكافر لا يبيح غشه ولا سرقته، قال النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه البخاري.

3)- وأما التزوير فهو تغيير الحقيقة بقصد الغش، ويسري في الأوراق النقدية، والأوامر الكتابية، والمعاملات الرسمية، كما يكون في الشهادات والأختام ونحوها فكم من مناظرة وطنيّة وقع إلغاؤها أو إعادتها لأنّ مئاتٍ من الذين تقدّموا لاجتيازها مرّروا في ملفّتهم شهائد مزوّرة ...والسؤال هنا من ساعدهم للحصول عليها ؟، ومن التّزوير أيضا شهادة الزور التي تقتطع بها الحقوق، أو يعاقب بها أبرياء، أو يفكّ بها مجرمون، وهذا من كبائر الذنوب؛ كما روى أَبُو بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَكْبَرُ الكَبَائِرِ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ -ثَلاَثًا- أَوْ: قَوْلُ الزُّورِ" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ"رواه الشيخان (قال الصّحابة ليته سكت شفقه على النبي صلى الله عليه وسلّم لشدّة تأثّره بما قال).

4)- وأما الخيانة فهي: أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح، وهي الأصل الجامع لكل فساد مالي وإداري؛ لأن من انعقد قلبُه على الخيانة ارتشى واختلس وزوّر، وفعل كل أمر محرّم؛ لنيل الجاه، أو كسب المال.
وكل ولاية أو وظيفة يتقلّدها الإنسان فإما أن يكون أمينا فيها وإما أن يكون خائنا، ولا منزلة بين الاثنتيْن؛ فإن راقب الله تعالى فيما أسنِد إليه من عمل، وأدّى حقوقَه، ولم يأخذ ما ليس له، وعدل بين الناس فلم يحاب أحدا لقرابة أو صداقة أو نفوذ يرجو من ورائه نفعا قريبا أو بعيدا؛ فهذا أمين يؤْجَر على أمانته وإن ذمّه الناس لما يروْن من سلبيّته تجاه أطماعهم؛ فإن الناس يطلبون ما ليس لهم، ولا يعفّون عما تناله أيديهم، ولا يمنعهم من الحرام إلا عجز أو عقوبة، وقليل منهم من تحجِزِه مخافة الله تعالى عن الحرام.

وحينما يسود أهل الخيانة، ويبعد أهل الأمانة، يكثر الفساد في الأمة ويستشري، ويعسر القضاء عليه؛ لأن منافع المناصب والوظائف يتداولها المفسدون فيما بينهم، ويمنعون عامة الناس منها وهي من حقوقهم؛ فكل واحد منهم يخون لصاحبه في دائرته من أجل أن يخون له الآخر في مصلحة أخرى، وبهذا تحتكر الوظائف والترقيات والمناقصات والميزات في كل مرفق حكومي، ويتداولها المفسدون من أصحاب المصالح والمنافع، بل ويحاربون الأمناء الذين لا يشاركونهم في فسادهم. وهذا مصداق ما أخبر به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "... فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلًا أَمِينًا، وَيُقَالُ لِلرَّجُلِ: مَا أَعْقَلَهُ وَمَا أَظْرَفَهُ وَمَا أَجْلَدَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ" رواه الشيخان.

فالحذر الحذر -عباد الله- من كل ذلك، ولنا عبرة وعظة في عظماء وأغنياء جمعوا مالاً عظيماً، وملؤوا الدنيا ضجيجاً، دفنوا حين دفنوا بأكفانهم كما يدفن الفقراء، ولم يأخذوا من الدنيا شيئاً، وبقي عليهم حسابُ ما جمعوا؛ فإنّ الإنسان جمّاع لغيره، ولا يجمع لنفسه، قال عبد الرحمن بن القاسم وكان أفضل أهل زمانه: " مات عمر بن عبدالعزيز وخلّف أحد عشر ابناً، فبلغتْ تركته سبعة عشر ديناراً، كُفن منها بخمسة دنانير، واشتري له موضع القبر بدينارين، وأصاب كل واحد من أولاده تسعة عشر درهماً).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعنا الله وإياكم بما فيه من الذكر الحكيم أقول قولي هذا فإن أحسنت فمن الله عزّ وجلّ وإن أخطأت فمن نفسي ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم ...