الخطبة الأولى : حبّ الوطن
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ به من شرورِ أنفسِنا؛ ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحبِهِ، وسلَّمَ تسليماً كثيراً إلى يومِ الدين، أمَّا بعد:
فيا أيُّها النَّاسَ، اتَّقوا اللهَ تعالى حَقَّ التقوى واتقوا صفة مبتذلة حذّر منها الله ورسوله...ألا وهي صفة الخيانة.إن الخيانة من الأخلاق الذميمة التي نهى الإسلام عنها، فهي صفة قبيحة ممقوتة، تسبب قطع الصلات والأواصر بين الأمة، وإضعاف الثقة بين أفراد المجتمع المسلم، ولذا جاءت النصوص بالتحذير عنها، وبيان سوء عاقبتها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، وإذا تدبر المسلم كتاب الله وسنة محمد صلى الله عليه وسلم رأيت التحذير عن الخيانة بصور شتى، فبين الله جلَّ وعلا أولا: أنه لا يحب الخائنين: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)، ونهانا جلَّ وعلا عن المخاصمة عن الخائنين الذين يجحدون ما عليهم ويطلبون ما ليس لهم: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً)، وأخبر تعالى أن الخيانة بالدين من أسباب دخول النار: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا)، والمراد الخيانة بالدين، وأن كيد الخائن يرجع على نفسه ويعود وباءه عليه، وأخبر تعالى أن الخيانة من أخلاق اليهود (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ)، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الخيانة من أخلاق المنافقين: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ"، واستعاذ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم من الخيانة فقال: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ"، والخيانة ليست من أخلاق القرون الأولى كما قال صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ القرون قَرْنِى ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يأتي بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يُوفُونَ"، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن شهادة الخائن غير مقبولة جاء عنه: "لاَ تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلاَ خَائِنَةٍ"، وأن هذا الخائن يوم القيامة ينصب له لواء يقال هذه غدرة فلان ابن فلان، وأن هذا الخائن خصمه الله يوم القيامة كما في الحديث يقول الله: "ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ" الحديث.
أيُّها المسلم، وإن صور الخيانة متعددة: فمنها الخيانة في العقيدة، إذ التوحيد والإيمان أمانة في عنق كل فرد من المجتمع، أخذ الله الميثاق على بني آدم وهم في صلب أبيهم آدم أن يوفوا بهذه الأمانة (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا)، (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ)، فتوحيد الله أمر أخذ الميثاق عليه فمن كفر بالله وعبد غيره فقد خان تلك الأمانة.
أيُّها المسلم، ومن أنواع الخيانة: التطاول على الذات الإلهية أو مقام النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بالاستهزاء والازدراء والتنقص، وكل هذا من خيانة الأمانة.
ومن خيانة الأمانة: اعتقاد الخرافات والخزعبلات والبدع والآراء الصوفية الشاذة والدعوة إليها ونشرها بين المجتمع.
ومن أنواع الخيانة أيضا: الشك في ثوابت الإسلام وقواطعه وأصوله، ومسلماته، فمن طعن في أصول الدين ومسلماته وثوابته فإن هذا من أنواع الخيانة.
ومن أنواع الخيانة أيضا: إخضاع نصوص الكتاب والسنة لأراء النَّاس وعقولهم وإفراغها عن مدلولها الذي دلت عليه لمن تأمل وتتدبر.
ومن أنواع الخيانة: القدح في حملة هذه الشريعة، وعلى رأسهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهم الواسطة بيننا وبين نبينا في تبليغ كتاب الله وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالقدح في الصحابة أو انتقاصهم، أو الاستهزاء بهم والحط من قدرهم، أو تلفيق التهم فيهم تلك الطريقة أهل الضلال والزيغ، لا طريقة أهل الإيمان الصلاح، فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم جاهدوا في الله حق جهاده، بلغونا كتاب ربنا، بلغونا سنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم وسيرته وأقواله وأفعاله وأخلاقه وأعماله، فرضي الله عنهم ورضوا عنه، فحقهم علينا أن نستغفر لهم، وندعوا لهم قال الله: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ).
ومن خيانة الأمانة: القدح في شعائر الإسلام، وإضعافها، واعتقاد أن شريعة الإسلام قاصرة لا تستطيع مواكبة العصر، ولا حل قضايا الأمة المستجدة، وكل هذا من الخيانة: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ).كما أنّ من مظاهر الخيانة تعمّد تكفير الناس والترويج لأفكار فاسدة منها القول بأنّ كلّ شيء عدا ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسّلام بدعة يجب تركها ، وهذه مخالفة صريحة للاجتهاد المفتوح بابه إلى يوم الدّين ، كما أنّها دليل على عجز بعض الأفهام عن فهم مقاصد الشريعة افسلامية التي أمرت بمواكبة العصر ونبذ التزمّت والتطرّف والغلوّ في الدّين.
كما أنّه من الخيانة لله ولرسوله خيانة الوطن والأمّة ، فقد روي عن عبد الله بن عباسٍ ( رضي الله عنهما ) أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة :" ما أطيبكِ من بلد ، وأحبَّكِ إليَّ ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ " ( رواه الترمذي ، الحديث رقم 3926 ، ص 880 ) .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "عمّر الله البلدان بحب الأوطان"، وفي حديث أصيل الغفاري بعد عودته من مكة إلى المدينة حين سأله رسول الله: يا أصيل كيف عهدت مكة؟ قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وأسلت ثمامها، وأمش سلمها، فقال رسول الله حسبك يا أصيل، لا تحزنا وفي رواية ويها يا أصيل، دع القلوب تقر قرارها. وقال السهيلي: قال ورقة للنبي صلى الله عليه وسلم: "لتكذبنه قريش" فلم يقل له شيئا، ثم قال: "ولتؤذينه" فلم يقل له شيئا، ثم قال: "ولتخرجنه" فقال عليه السلام: أو مخرجي هم؟!، ففي هذا دليل على حب الوطن وشدة مفارقته على النفس.
نفعني الله وإياكم بما ورد من الآيات والذكر الحكيم وغفر الله لي ولكم ببركة النبي الأمي الأمين ولا حول ولاقوّة إلا بالله العلي العظيم.
المفضلات