خطبة الجمعة : شفقة النبي صلى الله عليه وسلّم بصحابته
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الخافضِ الرّافع، الضّارِ النافع، الجوادِ الواسع، الجليلِ ثناؤهُ، الصادقةِ أسماؤهُ، المحيطِ بالغيوب، وما يخطرُ على القلوب، الذي جعلَ الموت بين خلقه عدلاً، وأنعم بالحياةِ عليهم فضلاً، فأحيا وأمات، وقدّر الأقوات أحكمها بعلمه تقديرا، وأتقنها بحكمته تدبيرا، إنه كان خبيراً بصيرا .أمّا بعد ، عباد الله
فما مِن خصلة من خصال الخير إلا ولرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوفر الحظ والنصيب من التخلق بها ، وقد وصفه الله تعالى بلين الجانب لأصحابه فقال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ }(آل عمران: من الآية159) ..وفي معاملته ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه من حسن الخُلق ما لا يخفي ، ومن ذلك أنه كان يقضي حوائجهم ، ويتواضع معهم ، ويجيب دعوتهم ، ويزور مرضاهم ، ويشهد جنائزهم ، ويدعو لهم ولأبنائهم ، ويشفق عليهم ، ويشعر بآلامهم ، وينهاهم عن المبالغة في مدحه .. عن عبد الله بن أبي أوفى ـ رضي الله عنه ـ في وصفه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ( ..ولا يأنف أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي له حاجته )(النسائي) .
وعن سهل بن حنيف - رضي الله عنه ـ قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم ، ويعود مرضاهم ، ويشهد جنائزهم )(الحاكم) .
وعن أنس - رضي الله عنه ـ قال : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يزور الأنصار، فيسلم على صبيانهم ، ويمسح برؤوسهم ، ويدعو لهم )(النسائي) .
وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه سمع عمر ـ رضي الله عنه ـ يقول على المنبر: سمعت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : ( لا تطروني(تبالغوا في مدحي) كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنما أنا عبده ، فقولوا عبد الله ورسوله )(البخاري) ..
وكان - صلى الله عليه وسلم - عادلا بينهم لا يحابي أحدا بغير حق .. لما كلمه ـ حِبه ـ أسامة بن زيد في العفو عن المرأة المخزومية التي سرقت ، تلون وجهه - صلى الله عليه وسلم ـ وقال : ( أتشفع في حد من حدود الله؟ ، ثم قام فاختطب ثم قال : إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها )(البخاري) ..
ومن هديه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أصحابه في وقت الشدة والبلاء التسلية والعزاء ، فكان يشعر بآلامهم ، ويجعل لهم من محنهم منحا ، ومن الحزن فرحا ، ومن الألم أملا ..
ومن صور ذلك ما رواهأنس - رضي الله عنه - قال : خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الخندق، فإذا المهاجرون والأنصار يحفرون في غداة باردة ، فلما رأى ما بهم من النَصَب والجوع قال : ( اللهم إن العيش عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة .. فقالوا مجيبين له : نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا )(البخاري) .
وقال قرة بن إياس - رضي الله عنه - : ( كان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس يجلس إليه نفر من أصحابه ، وفيهم رجل له ابن صغير يأتيه من خلف ظهره فيقعده بين يديه ، فهلك(مات) ، فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة ، لذكر ابنه ، فحزن عليه ، ففقده النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : مالي لا أرى فلانا؟ ، قالوا : يا رسول الله ، بنيه الذي رأيته هلك . فلقيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن بنيه ، فأخبره أنه هلك ، فعزاه عليه ، ثم قال : يا فلان أيما كان أحب إليك : أن تمتع به عمرك ، أو لا تأتي غداً إلى باب من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك؟ ، قال : يا نبي الله بل يسبقني إلى باب الجنة فيفتحها لي لهو أحب إليَّ ، قال : فذاك لك ، فقالوا : يا رسول الله أله خاصة أم لكلنا ؟ ، قال : بل لكلكم )(النسائي
وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يرضى لأحد أن يحتقر أو يسب أحدا من أصحابه أو يحتقره، ولو كان صحابيا مثله ..
فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حمارا ، وكان يُضْحِك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب ، فأتي به يوما فأمر به فجلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا تلعنوه ، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله )(البخاري) .
وفي ذلك دليل على أن الكبائر لا تخرج أصحابها من الإيمان ، وعلى حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم ـ وحبه لأصحابه .. فإن المراد إصلاح المخطئ لا إقصاؤه وإبعاده ، فما أعظم شفقته على أمته، وحرصه على أصحابه !..
وكان - صلى الله عليه وسلم - يثني على أصحابه إظهاراً لفضلهم وعلو قدرهم ..
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبَي بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ألا وإن لكل أمة أمينا ، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح )(الترمذي) .
هذه بعض الصور والسطور المضيئة من صفحات معاملة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه ، فما أحوجنا إلى أن نحول هديه وخلقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى سلوك عملي تنتظم به أمورنا ، وتسعد به حياتنا .
نسأل المولى عزّ وجلّ أن ينفعنا ببركة المصطفى عليه الصلاة والسلام ,ان يجعلنا من شفعائه ، إنّه سميع قريب مجيب.
المفضلات