الخطبة الأولى: الصدقة المنسيّة

الحمد لله المُتوحِّد في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المُتفرِّد بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المُتعالي بعظمته ومجده الذي نزَّل الفُرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله المُؤيَّد بالمُعجزات، والمنصورُ من ربِّ البريَّات، عليه من الله أفضلُ صلاةٍ وأزكى تسليمٍ، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فمن رحمة الله بالمؤمنين أنه فرض عليهم شرائعه، ووضع لهم قاعدةً عامةً فيما يعمله المسلم، فقد قال لنا صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى".
فكلُّ عملٍ تعمله وتحتسبُ فيه النيةَ الصالحة والأجرَ من الله، فسوف تجدُها في صحيفة أعمال يوم العرض.
عباد الله : من الأعمال الصالحة التي يغفلُ عنها كثير من الناس، أو يغفل عن احتساب النية والأجر فيها، عملٌ يسيرٌ جداً، لا يُكلِّفُ المرءُ فيها نفسَه إلا ما هو كلمح البصر، إنَّه عمل جعلَه رسولنا -صلى الله عليه وسلم- من الصدقات، إلا أنها صارت صدقةً منسيةً في ظلِّ هذا الزمن الذي طغت فيه الماديات، والمصالحُ الشخصية، وامتلأت بعضُ القلوب بالشحناء على إخوةٍ لهم من المؤمنين.
أيها الإخوة الكرام: إنني أعني الابتسامة؛ ذلكم الهدي النبوي، والذي كان شعاراً للنبي -صلى الله عليه وسلم-.
تنطلقُ الابتسامةُ من الشفتين بأيسر ما يكون: "لا تحتاج إلى بذل مال ولا قوة جسد"[عبارة من خطبة للشيخ إبراهيم الحقيل، كتابه: المفيد (2/419)].
لتمسَّ في المقابلِ قلباً فتخالطَه، و"تمسحُ آلامَ من تُقابلُه وتداوي جراحَ من تُرافقه"[الجملة مستفادة من جوال "قدوتي"].
أيها الإخوة: يقول لنا صلى الله عليه وسلم مبيناً لنا عِظم هذا الفعل، وأنه من المعروف الذي تُكتب للإنسان بفعله صدقة: "تبسمك في وجه أخيك صدقة"[رواه الترمذي (1956 ورقمه في طبعة الأرناؤوط 2071 وصححها المحقق، ورواه البخاري في الأدب المفرد، ح890) وغيره
فيا لله الكريم: جعلنا لنا في هذه الحركةِ التلقائية صدقةً تُكتَبُ لنا يوم القيامة لتكون في مثاقيل موازيننا، يتنافس فيها المتنافسون أيُّهم أكثرُ فعلاً لها لتزداد الحسنات في صحيفةِ العبد يوم القيامة بشرطِ أن نحتسبَ أجرها عند الله.
أيها الكرام: الابتسامة لها مفعول السحر في التأثير على الآخرين، وطلاقةُ الوجه تُذيب ما في الصدور من الشحناء والبغضاء، وهي مطرقةٌ على رأس الشيطان، فتضربُ الابتسامةُ رأسَ الشيطان فلا يجد حينئذ مدخلاً لها بين قلوب المبتسمين.
أخي الكريم: ادخل على والديك وأنت مبتسم لتنالَ أجر الابتسامة، وأجر برِّك لهم بهذا الفعل.
لا تجلس مع إخوتِك وأصحابِك إلا وقد سبقت ابتسامَتُك سلامَك، فتصفى القلوبُ حينئذ.
وليستقبلُك أبناؤك وزوجتُك وقد أكرمتَهم بابتسامتك، فتزدادَ الألفةُ فيما بينك وبينهم.
وإذا دخلتَ محلاً، أو أتيتَ عملك فلتكن الابتسامةُ هي عنوانُك وشعارك.
ابتسم لكلِّ من تلقاه عينك، عند الإشارة وأنت واقفٌ بسيارتك، وعند خروجك من المسجد، وعند لقياك للناس في أي مكان.
تُذيب بها ما في القلوب، وتكسر الحواجز بينك وبين الآخرين، وتبدأ بها يوماً سعيداً.
أيها الكرام: لم تكن الابتسامةُ ضعفاً، بل هي عنوان القوةِ والكمالِ والثقةِ.
ولذلك يقول لنا الصحابي الجليل عبدالله بن الحارث: "ما رأيتُ أحداً أكثر تبسماً من رسول الله –صلى الله عليه وسلم- "[رواه الترمذي (3641 وفي طبعة الأرناؤوط 3970) وغيره
ولتبسمه وطلاقة وجهه كان يظن الرائي له أنه من أحب الناس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وكان يقول جرير بن عبدالله -رضي الله عنه-: "ما رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا تبسم في وجهي"[متفق عليه].
فانظر إلى حال أكمل الخلق في الدين والمروءة، كان دائم البِشْر والتبسم، مع أنه كان يحمل همَّ بيته وهمَّ أصحابه وهمَّ أمته وهمَّ الوحي، إلا أن ابتسامته صلى الله عليه وسلم كانت عنواناً له، يؤلِّف بها قلب من رآه، ويأسِرُ بها من نظر إليه، ويُكرِم بها أصحابه، يذيبُ بها النبي -صلى الله عليه وسلم- الجليد من الصدور، ويزيل الوحشةَ من النفوس.
أيها الأحبة: يقول لنا صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسطُ الوجه، وحسن الخلق"[رواه أبو يعلى والبزار والبيهقي
نعم -إخوةَ الإسلام-: كم نحن بحاجةٍ إلى هذا الخلق الكريم في حياتِنا كلِّها؟ فلن نملكَ أحداً من الناس؛ حتى أهلَنا وأصحابَنا بأموالنا أو بنفوذنا، ولكننا سنملكهم بطلاقة الوجه وحسن التعامل.
الابتسامة تَحْدُث في ومْضةٍ أقلَّ من الثانية، إلا أنه سيبقى أثرُها دهراً طويلاً على من تلقَّاها منك، وهي المفتاح الذي تفتح به أقسى القلوب، تُسرِّي عن القلب، وتَجْلِبُ البشر.
ابتسامتُك تزيدك بهاءً ونوراً، وألقاً وسروراً.
الابتسامة تزيدك تفاؤلاً وهمةً للإنجاز والعمل، وبالابتسامة تتغلب على هموم الحياة، وكدر هذه الدنيا الدنيئة، وبالابتسامة توجد لك أملاً نحو الحياة السعيدة.
أيها الإنسان الكريم: تَسلُّحَك بالابتسامة والبشاشة تقتل من أمامك ممن يريد بك الشر، أو على الأقل يريد إهانتك، فقد روي في سيرة وترجمة الإمام موفق الدين ابن قدامة، أنه كان في مناظراته مع الآخرين، والتي قد تستلزم أو تجعلُ الإنسان غاضباً مكفهراً غضوباً إلا أنه رحمه الله لم يكن يناظر أحداً إلا وهو مبتسم، فيقولون: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه[ذيل طبقات الحنابلة، لابن رجب].
يقول الإمام الذهبي: "فهذا هو خلق الإسلام -يعني التبسم-، فأعلى المقامات من كان بكاء بالليل، بساما بالنهار "[سير أعلام النبلاء].
ذلك أن الابتسامة هي بوابة حسنِ الخلق، وحسنُ الخلق جعله النبي صلى الله عليه وسلم في مرتبةٍ عليا، وضمن لصاحبه بيتاً في أعلى الجنة: "أنا زعيمٌ ببيت في أعلى لمن حَسَّن خلقه"[رواه أبو داود].
بل قال صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم"[رواه أبو داود وأحمد والبيهقي في الشعب].
فحينما يقبضُ ملكُ الموتِ روحَك، ونقف جميعاً أمام ربِّ العالمين، ستجد أثرَ هذه الابتسامة، وأثر الخلق الحسن في ميزان حسناتك إذا احتسبت هذا الفعل، يقول صلى الله عليه وسلم: "مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ"[رواه الترمذي، وأبو داود وأحمد وابن حبان ].
نعم -أخي المؤمن-: كما قال صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ"[قال النووي في شرحه على مسلم: روي: "طلق" على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِسْكَانُ اللَّامِ، وَكَسْرِهَا، وَ "طَلِيقٍ" بِزِيَادَةِ يَاءٍ، وَمَعْنَاهُ: سَهْلٌ مُنْبَسِطٌ][رواه مسلم (2626)] أي بوجهٍ سهل منبسطٍ بشوش[جاء في نضرة النعيم: طلاقة الوجه: انفساحه بالبشاشة وهشاشته عند اللقاء بحيث لا يكون كالحاً ولا باسراً، ص2699)].
قال ابن عبد البر -رحمه الله-: "ولا ينبغي للعاقل المؤمن أن يحتقر شيئاً من أعمال البر، فرُبَّما غُفِرَ له بأقلِّها"
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفور الرحيم.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .