الخطبة الثانية : حقوق القرآن علينا
إنَّ الْحَمدَ للَّهِ نحمدُهُ، ونستعينُهُ، ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللَّهِ مِنْ شُرُورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يهده اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِي لَهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللَّهُ وحده لا شريكَ لَهُ، وأشهد أنَّ مُحمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ، أما بعد:
للقرآن الكريم مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة عند المسلمين؛ فهو كلام الله ووحيه المنزَّل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الرسالة الخاتمة لخير أمة أخرجت للناس، وهو أيضاً مصدر الدين والتشريع والتقنين .
فالقرآن هو أصل الأصول وأساسها، وهو أصل حياة الأمة وسبيل رشدها وعزتها، ولهذا فقد وصفه الله تعالى بأوصاف عدة تبين طبيعته ووظيفته، وتثبت أهميته ومكانته العظيمة، منها : أنه روح، وأنه شفاء ورحمة للمؤمنين به العاملين بهداه، وأنه هدى للمتقين، وأنه نور وضياء به تستضيء العقول وتستنير القلوب .
وهذا بعض ما يجب علينا نحن المسلمين نحو كتاب الله .
أولاً : واجب القراءة
قال تعالى : " فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ " [المزمل/20] فعلى المسلمين اليوم أفراداً وأسراً ومجتمعات أن يخصصوا أوقاتاً بالليل والنهار سراً وعلانية لقراءة القرآن وتلاوته.
ثانياً : واجب الاستماع والإنصات
فالواجب : أن يكون استماعنا للقرآن وإنصاتنا له مقدماً على استماعنا لأيِّ كلام آخر دونه؛ فعلى قدر استماع الآذان وإنصات العقول والقلوب الواعية للقرآن يكون استحقاق الرحمة للمستمع المنصت .
قال تعالى : " وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ " [الأعراف/204] .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : " هذا الأمر عام في كل من سمع كتاب الله يتلى فإنه مأمور بالاستماع له والإنصات، والفرق بين الاستماع والإنصات : أن الإنصات في الظاهر بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه، وأما الاستماع له : فهو أن يلقي سمعه ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع ".
ثالثاً : واجب الترتيل
فالله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بترتيل القرآن الكريم، وهو أمر للأمة أيضاً، فقال تعالى : " وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا " [المزمل/4] .
التفسير الكبير ج30 ص153
وقوله تعالى " تَرْتِيلاً " تأكيد في إيجاب الأمر به، وأنه مما لا بد منه للقارئ، واعلم أنه تعالى لما أمره بصلاة الليل أمره بترتيل القرآن حتى يتمكن الخاطر من التأمل في حقائق تلك الآيات ودقائقها فعند الوصول إلى ذكر الله يستشعر عظمته وجلالته
رابعاً : واجب التدبر
والأصل فيه : قوله تعالى : " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا " [محمد/24]، فالتدبر وسيلة لاستثمار القرآن واستقامة الفكر وصحة الفهم عن الله تعالى، وهو مفتاح خشوع القلب واستحضار عظمة الله تعالى .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله : " وما تضمنته هذه الآية الكريمة من التوبيخ والإنكار على من أعرض عن تدبر كتاب الله جاء موضحاً في آيات كثيرة كقوله تعالى " أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً "، وقوله تعالى : " أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءهُمُ الأَوَّلِينَ "، وقوله تعالى " كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُواْ ءَايَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الأَلْبَابِ "، وقد ذم جل وعلا المعرض عن هذا القرآن العظيم في آيات كثيرة كقوله تعالى " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا "، وقوله تعالى " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا "، ومعلوم أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم أي تصفحها وتفهمها وإدراك معانيها والعمل بها فإنه معرض عنها غير متدبر لها فيستحق الإنكار والتوبيخ المذكور في الآيات إن كان الله أعطاه فهماً يقدر به على التدبر،
وقد شكا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه من هجر قومه هذا القرآن كما قال تعالى (وَقَالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً، وقد قال بعض العلماء "إنّ من هجر القرآن الكريم ثلاث جمع متتاليات كان ممّن اتخذ القرآن مهجورا ) ، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن المشتغلين بذلك هم خير الناس كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في " الصحيح " من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال " خيركم من تعلم القرآن وعلمه "، وقال تعالى " وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ".
وبالمناسبة فنحن ندعو الإخوة والأخوات إلى الانضمام إلى حلقات تحفيظ القرآن الكريم المجودة بعدّة مساجد في مدينتنا (جامع بن نصر / جامع الفتح/ جامع النور...)
خامساً : واجب العمل بالقرآن والاحتكام إليه في أمور الدين والدنيا
المسلمون اليوم ضلوا السبيل بسبب انفراط هذا الواجب في حياتهم فاتبعوا الأهواء والأعداء، وحكّموا في أمورهم القوانين الوضعية المستوردة والمحلية .
والقرآن إنما أنزل للعمل به وتحكيم شريعته فضاعت الأمة بإضاعتها لشريعته وتبعيتها العمياء لقوانين الأعداء وتشريعاتهم التي يحكمها العجز والقصور والضلال، والله تعالى يقول : " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " [المائدة/50] .
قال الإمام الشوكاني رحمه الله : " قوله " أفحكم الجاهلية يبغون " الاستفهام للإنكار والتوبيخ، والمعنى : أيعرضون عن حكمك بما أنزل الله عليك ويتولون عنه ويبتغون حكم الجاهلية ..
نسأل المولى أن يوفّق الأمّة الإسلاميّة للعودة لدوحة القرآن الكريم وحفظه وتدبّره والعمل به : كما نسأله السلامة والثبات على الدين .