الخطبة الأولى : الأمانة مكانتها و أثرها فى المجتمع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا .. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102 سورة آل عمران) ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1 سورة النساء) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (70 سورة الأحزاب) .
أما بعد .. فيا أيها الناس : ما مِنَّا مِن أحدٍ إلا وقلبه مشرئبٌّ إلى الفلاح وبلوغه ، وإنه ما غاب قلبٌ عن هذا الاستشراف إلا حُكِم عليه بالمرض إن لم يكن قُضِي عليه بموت القلب ..
إن مطلب الفلاح أمرٌ فطريٌّ غريزي جاءت به الشريعة الإسلامية الغرَّاء مؤيدةً له حاضَّةً عليه محرِّضةً على تحصيله تحصيلًا حثيثا ، وجعلت الفلاح مشارب ومراكب .. كلٌّ يورد ويُصدر على ما وهبه الله من الهمة والحرص والأمل .
إنها الأمانة العظمى عباد الله .. نعم الأمانة بمفهومها الواسع الذي أرادها الله لها وأرادها رسوله - صلى الله عليه وسلم - وهي ضد الخيانة بمفهومها الواسع الذي نهى الله ورسوله عنها ؛ لتكون الأمانة في كل ما افترض الله على العباد في الدين والأعراض والأموال والعقول والأنفس والمعارف والعلوم والولاية والحكم والشهادة والقضاء والأسرار والحواس الخمس ونحو ذلك .. فهي كما قال القرطبي - رحمه الله - : " تعم جميع وظائف الدين " .
ثم إنه لا يمكن أن يكون الأمين أمينًا إلا إذا كان عافًّا عمَّا ليس له به حق .. مؤدِّيا ما يجب عليه من حقٍّ لغيره .. حريصًا على حفظ ما استُؤمِن عليه غير مفرِّطٍ به ..
فإن من اجتمعت فيه هذه الركائز فهو في دائرة المفلحين الذين قال الله - جل وعلا - عنهم : قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1 سورة المؤمنون) .. إلى أن قال : وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (7 سورة المؤمنون) .
الأمانة - عباد الله - لم تكن بدْعًا من التشريع الإسلامي المحمدي فحسب ، بل هي من أبرز أخلاق الرسل والأنبياء - عليهم أفضل الصلاة والسلام - فهذا نوحٌ وهودٌ وصالح ولوطٌ وشعيب .. كل واحدٍ منهم قد قال لقومه : إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162 سورة الشعراء) ، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم - ما كان يُعْرَف في قومه إلا بالصادق الأمين ، وقد جعل الباري - جل شأنه - هذه الصفة للروح الأمين جبريل - عليه السلام - في قوله : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193 سورة الشعراء) .
لقد قصرت أفهام الكثيرين عن معنى الأمانة فحصروها في حفظ الودائع المالية والمادية فحسب ، وضيقوا بهذا الفهم واسعا .. في حين إنها ليست إلا لونًا من ألوان الأمانة التي تتعدد وتتجدد .. فالقيام بالواجب أمانة ، وترك المنهي أمانة ، والأمر بالمعروف أمانة ، والنهي عن المنكر أمانة ، والحكم أمانة ، ورعاية حقوق الأمة أمانة ، والعلم أمانة ، وحماية الدين والذب عن حياضه أمانه ، وصيانة أرض الوطن المسلم وحماية ممتلكات المجتمع أمانة ..
فكل أمانةٍ من هذه الأمانات تتحقق بإقامة مصلحتها ودرأ مفسدتها وعدم خذلان الأمة فيها : إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107 سورة النساء) .
وإذا نظرنا إلى كلمة الأمانة - عباد الله - فإننا سنجد فيها معنى الأمان والاطمئنان .. فكأن الأمن والطمأنينة والراحة والاستقرار مرهونةٌ كلها بتحقيق الأمانة على وجهها الصحيح .. فلا يمكن أن يأمن ظالمٌ ولا يهدأ عاص ولا يسعد خوَّان ولا يفلح منافق ولا يصل متلفت ..
وفي حين أن القرآن الكريم قد ذُكِرت فيه الأمانة في مواضع كثيرة فإنه في الوقت نفسه قد جاء التحذير من ضدها .. وهي (الخيانة) .. فقال الله - جل شأنه - : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ )) (27 سورة الأنفال) ، وقال سبحانه : (( وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ )) (52 يوسف) .
وكفى بالخيانة شرًّا وقبحًا ومقتًا أنها سببٌ في دخول جهنم وبئس المصير من خلال ما ضرب الله لنا مثلًا بامرأتين من نساء الأنبياء والرسل ، و ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10 سورة التحريم) .. أي خانتاهما في الدين ، وكانتا تدلان أقوامهما بمن يؤمن مع أزواجهما .
إنها النار .. إنها النار يا مَنْ خنُت الأمانة .. إنه العذاب الأليم يا مَنْ خنت ربك وخنت ولي أمرك وخنت أمتك وخنت نفسك التي بين جنبيك ..
لقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوظائف أمانات ، وطلب من ذوي القوى الإحسان فيها والتيقظ لها ، ونصح الضعفاء عن طلبها والتعرض لها .. فقد سأله أبو ذر - رضي الله عنه - أن يستعمله فضرب بيده على منكبه وقال : " يا أبا ذر إنك ضعيف .. وإنها أمانة ، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها " رواه مسلم .
ومن هذا الحديث - عباد الله - نستطيع أن نبعث رسالةً إلى كل من تطلعت نفسه واشرأبت إلى أن تتولى مصلحة من مصالح المسلمين دون استحضار القدرة عليها والشعور بقيمتها وعظم المسئولية والتبعة فيها ..
والقوة - عباد الله - في هذا الحديث هي التي تعني حسن الإدارة الموصوفة بالحزم والحكمة والإجادة ؛ إذ لا أحد يشك في إيمان أبي ذر - رضي الله عنه - وتقواه .. ومع ذلك وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه ضعيف ..
والضعف عيبٌ في تحمل المسئولية ؛ ولذا فإننا نشاهد في كل عصرٍ ومصر من تُوكل إليه المسئولية وهو طيبٌ في نفسه ومؤمنٌ بربه وحسنٌ في عبادته ولكنه لا يفعل خيرًا في مسئوليته ولا يحجز شرّا .. هكذا سبهللا ، وترى من تحت مسئوليته فوضى لا رقيب عليهم ..
فمثل هذا لم يدرك أن وظيفته عقدٌ بينه وبين ولي الأمر أو بين مؤسسةٍ للقيام بعمل محدودٍ مقابل عوضٍ مخصوص ، ومن فرَّط في أداء هذا الواجب فهو ممن لم ينفعه إيمانه في أداء واجبه ؛ إذ كيف يرضى المؤمن بالغش أو الخيانة أو التقصير فيما استأمنه عليه ولي الأمر من مصالح العباد وحاجاتهم ؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " لا إيمانَ لِمَنْ لا أمانةَ له ولا دينَ لمن لا عهد له" رواه أحمد وابن حبان .
ولذا فإن الوظائف - كبيرها وصغيرها - ليست وسيلةً للترفع أو الترفه .. إنما هي كيان دولةٍ وضمان مجتمع وحاضر أمة ومستقبلها ..
فمن ولاه ولي أمر المسلمين عملًا فضيع فيه فهو خائن . فهو خائن . فهو خائنٌ للأمانة ، ولولي الأمر وللمجتمع بأسره : ...إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ )58 سورة الأنفال) ، وما هذه حال المؤمن الصادق الناصح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : "والمؤمنُ من أمنه الناس على دمائِهم وأموالهم "رواه الترمذي والنسائي .
ثم إن الخائن للأمانة لَيُعد من المنافقين النفاق العملي بنص النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث قال : " آيةُ المنافق ثلاث : إذا حدَّث كذب وإذا وعد أخْلف وإذا اؤتمن خان " رواه البخاري ومسلم .
فالحذر الحذر - عباد الله - من انقلاب المفاهيم وعدم التمييز بين الخائن والأمين .. فما زمننا هذا إلا ميدانٌ ترامت فيه الأهواء وقُلِبت فيه الحقائق فسُتِر على الخائن وضُيِّق على الأمين بسبب مفاهيم مغلوطةٍ ومقدماتٍ مضللة ، ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : " والذي نفْسي بيدِه .. لا تقومُ الساعةُ حتى يُخوَّنُ الأمين ويؤتمن الخائن..." الحديث رواه البخاري وسلم .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
المفضلات