الله أكبر،الله أكبر ، الله أكبر
الحمد لله مُكَوِّرُ النَّهارِ على الليل ، ومُكَوِّرُ الليلِ على النَّهار ، أحمدُه سبحانه، وهو لكلِّ حَمْدِ أهل ، وأشكره وأُثني عليه الخير كلَّه ، لا إله إلا هو ولا ربَّ سواه ، الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بُكرةً وأصيلاً .
وأُصلِّي وأسلم على خير خلقه نبينا محمد ، بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، وقد ترك الأمة على مَحَجَّةٍ بيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك ، فجزاه الله خير ما جزى نبياً عن أمته ، وآتاه الوسيلة والفضيلة ، وبعثه مقاماً محموداً الذي وَعَدَه ، وصلى الله وسلم على آله وصحبه والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدين .
أما بعد :
فالله أكبر، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر، الله أكبر ، ولله الحمد .
أيها الإخوة والأخوات : أسأل الله أن يجعل يومَكم هذا مباركاً ، وأن يجعلنا جميعاً من المقبولين ، وأن يكتب لنا جميعا السعادة في الدنيا والآخرة .
أيها المسلمون :
تستقبلون اليوم بفضل الله ونعمته يوماً مجيداً من أيام الله ، إنه يوم عيد الفطر ، هذا العيد الذي امتنَّ الله به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فشرعه على الكمال والتمام ، قال الله تعالى : ) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ( [الحج : 34].
وروى أبو داود والنسائي وغيرهما بسند صحيح عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قَدِمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ، ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال : " قد أبدَلَكُم الله تعالى بهما خيراً منهما: يومَ الفطر والأضحى ".
ولهذا قال العلماء: تُشرع التوسعة على الأهل والعيال في أيام العيد، بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس وترويح البدن، بما أحل الله ، وهذا من هديه صلى الله عليه وسلم ، ومما يدلُّ عليه ما روته أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : دخل عليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بُعَاث [1] ، فاضطجع على الفراش ، وحوَّل وجهه ، ودخل أبو بكر فانتهرني ، وقال : مِزمارةُ الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم ؟! فأقبل عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال : " دعهما " ، فلما غفل غمزتُهما فخرجَتَا. رواه البخاري ومسلم[2] .
جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال : " يا أبا بكر ، إن لكل قومٍ عيداً ، وهذا عيدنا ".
وفي رواية في " المسند " أن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : " لِتَعْلَمَ اليهود أنَّ في ديننا فسحة ، إني أُرسلت بحنيفية سمحة " .
فالعيد إذاً من الدِّين … والعيد عبادة وقربة … والعيد شِرْعةٌ ونُسُك ، ألا ترون أنه لو أن أحداً من الناس أصبح اليوم صائماً لكان عاصياً لله ، ولأصبح مأزوراً غير مأجور .
قال الله تعالى : ) يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( [البقرة : 185] .
فهذه والله نعمةٌ وأيُّ نعمة... ) قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( [يونس : 58].
ولا يخفى أن ما يتعاطاه بعض الناس من مظاهر الفرح المشتملة على المنهيات من غناءٍ أو تبرج النساء واختلاطهن بالرجال ونحو ذلك إنما جهلٌ قبيحٌ ممن يقع منهم .
أيها المسلمون : اليوم يَحُلُّ عيدُنا أهل الإسلام … وإنها لفرصة أن يتأمل المرء في حال نفسه وحال أمته .
إنَّ أمة الإسلام اليوم مثخنةٌ بأنواع من الجراح، مكلومةٌ في مجالات شَتَّى...
ولكم أن تتأملوا في الكُلِّيات والضروريات الخمس التي لا قوام للأمة إلا بها ( الدين والنفس والعقل والعرض والمال ) تجدوا أن فيها ما فيها من الوهن والخلل .
فالناظر فيما عليه المسلمون من التمسك بدينهم وبعدهم يجد الخلل الكبير الذي طال كثيراً الناس في عقيدتهم، وما ألَمَّ بها من الشركيات والبدع ، وهكذا الشأن في المحافظة على شعائر الدين من الصلاة والزكاة والصيام والحج التفريط كبيرٌ وكثير .
وهكذا ما يمارس اليوم من أنواع الصد عن سبيل الله وشرعه ، فمن بني جلدتنا من يقف حاجزاً بين الناس وبين تمسكهم بالدين وخاصة بعض الكتاب الذين يحاولون تشويه معالم الشرع والتنفير منه.
وغير بعيد عنهم ما تمارسه طوائف من المشركين والكفار من تشويه لدين الإسلام ومحاولةٍ للنيل منه ،كما أخبر سبحانه : ) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( [آل عمران : 186] ،
ولذلك نشِطوا في محاولات الإساءة والاستهزاء بشرائع الدين وبنبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ولئن ساءنا ذلك وكدرنا إلا أن الأمر كما قال سبحانه : ) فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ( [النساء : 19]. فهو علامة على مدى ما للدين الحنيف من قبول في أصقاع الأرض حمل قادة أهل الكتاب على إعلان المعاداة للإسلام ، بل ومحاولة تشويهه في أنظار أتباعهم ، فبحسب دراساتهم أن الإسلام إن استمر الداخلون فيه على هذه الوتيرة فستكون أوروبا قارة مسلمة بأكملها خلال عقودٍ قليلة.
ولكن محاولات إساءاتهم نحو النبي صلى الله عليه وسلم كما قال سبحانه : ) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ( [الحجر : 95].
وموقفهم من الإسلام لنا فيه وعدٌ صادقٌ من الله : ( يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) [التوبة : 32].
أيها المسلمون : إنَّ رعايةَ الأخلاق الشريفة والعنايةَ بالفضيلة وإشاعتِها في المجتمعات من أهم المهمات وأوجب الواجبات ، ذلك أن انهيار الأخلاق وشيوع الرذيلة مُؤذِنٌ بأخطار فادحة تعم المجتمع برمته ، حتى يَشِبَّ على ذلك الصغير ويهرم الكبير .
ولهذا كان من المقاصد والأهداف الشنيعة التي يسعى من في قلوبهم مرضٌ لإشاعتها بين الناس صرفهم عن الهدى والعفاف إلى الفحش والإسفاف ، كما أخبر الله عنهم في كتابه الكريم إذ قال عزَّ من قائل: ) وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً ( [النساء : 27].
وفي عدد من المجتمعات الإسلامية يشاهد اليوم ما حلَّ بكثيرٍ من الناس من التساهل بتوجيه أهليهم ، من جهة الحرص على العفاف والحشمة والحجاب والحياء ، ولم يزل التساهل يتوالى حتى بلغ الحال ببعض النساء أن رفضن الحجاب وأحللن مكانه التبرج والسفور وقلَّةَ الحياء عن علم واطلاع من أوليائهن من الآباء والإخوان والأزواج ، ثم تبع ذلك تعاطي الفواحش ومقدماتها بتقنينٍ رسميٍ في تلك البلاد الإسلامية وللأسف الشديد .
وفي هذا السياق يقول العلامة ابن القيم رحمه الله حول هذه المسألة مما فيه الذكرى للأزواج وأولياء أمور النساء وما يتوجب عليهم من رعايتهن وصيانتهن والبعد بهن عن كل ما يقلل من كرامتهن أو يهدر مكانتهن ، يقول ـ رحمه الله ـ " الطرق الحكمية " ( ص 239 ) :
" ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بَلِيَّة وشر ، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة ، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة ، واختلاطُ الرجال بالنساء سبب لكثرة الفواحش والزنا ، وهو من أسباب الموت العام والطواعين المتصلة .)
وصدق نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال : " ... لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا " رواه ابن ماجة ( 4019 ) وحسَّنه العلامة الألباني ـ رحمه الله ـ
فهل يتنبه أهل الإسلام إلى ما يتوجب عليهم من حفظ هذا الأدب المسلكي الذي يحفظون به محارمهم ويعنون بأهليهم ويقومون به نحوهم بواحد من أعظم الواجبات في الرعاية والتوجيه ، وتعزيز جوانب الحشمة والحياء والعفاف والحياء ، ذلك ما نرجوه ، والله المستعان .
أقول ما سمعتم ، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
الخطبة الثانية :
الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر
الحمد لله وحده لا شريك له القادر على كلّ شيء ناصر من نصر الدّين ، ثمّ الصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلّم قائد الغرّ المحجّلين وإمام المتقين وعلى آله وصحبه المكرمين إلى يوم الدين.
أيها المسلمون والمسلمات :
في مثل هذا اليوم الأغر خطب نبينا صلى الله عليه وسلم الرجال ، ثم خطب النساء فوعظهن وذكرهن ، يوضح هذا ما رواه الشيخان عن جابر بن عبد الله قال شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة يوم العيد فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ، بغير أذان ولا إقامة ، ثم قام متوكئا على بلال فأمر بتقوى الله وحث على طاعته ، ووعظ الناس وذكّرهم ، ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن وذكّرهن ، فقال : " تَصَدَّقْنَ فإنَّ أكثرَكُنَّ حَطُبُ جهنم " فقامت امرأةٌ من سِطَةِ النِّساء سَفعاء الخدين فقالت : لِمَ يا رسول الله ؟ قال : " لأنكن تكثرن الشكاة وتكفرن العشير " قال فجعلن يتصدقن من حُلِيِّهِنَّ يلقين في ثوب بلال من أقرطهن وخواتمهن " .
المرأة وما أدراكم ما المرأة … لقد أراد أهل الزيغ والضلال أن يجعلوها مطية لمشتهيات أنفسهم ، ينادون بتحريرها من كل ما يحول دون وصولهم إليها بالباطل والفواحش ، وحرَّضوها على اللحاق بركب بنات جنسها من المستعبدات في الغرب والشرق .
فما المرأة المسلمة قائلةٌ اليوم؟
هل تستجيب لما فيه حتفها؟ أم تتنبه للمكر الذي أعد لها.
أيتها الأخوات الكريمات : لقد ضلَّ أكثر النساء ، ولكن قد نَجَى كثيرٌ منهن ، لا بل إن منهن من كان عندهن ومن خلالهن تغيير مسار التاريخ بأمر الله تعالى .
هذه خديجة وسابقتها في الإسلام ، وتلكم عائشة وأثرها في تعليم الأمة ، ولم تزل ثلة الصالحات المصلحات متواكبة جيلاً بعد آخر إلى يومنا هذا . وفي مجتمعاتنا اليوم من الصالحات المصلحات في البيوت ودور تحفيظ القرآن والمدارس والكليات وغيرها ما هو مفخرة الأمة واعتزازها ، فيا حسرة على من ضلَّت عن هذا الهدى واستهانت بأمر نفسها واغترَّت بمسالك الانحراف ، ويا بشرى أخواتنا اللاتي آثرن الهدى على الضلال والعفاف والحشمة والحياء على ما يخالفها .
أيها المسلمون : ودَّعنا شهر رمضان ، غير أن الأعمال الصالحة لا تودع ولا تهجر ، فلله في دهركم خيرات وبركات وأعمالٌ صالحات ، فمن عمل طاعةً من الطاعات وفرغ منها ، فعلامة قبولها أن يصلها بطاعة أخرى ، وعلامة ردها أن يعقب تلك الطاعة بمعصية ، فما أحسن الحسنة بعد السيئة تمحوها ، وأحسن منها الحسنة بعد الحسنة تتلوها ، وما أقبح السيئة بعد الحسنة تمحقها وتعفوها
أيها المسلمون : من خير ما تبدأون به يوم العيد صلة أرحامكم ، وخاصة الرحم القاطعة فوصلها أعظم وثوابها أجزل ، ولا تنسوا المساكين واليتامى والأرامل من إدخال السرور على أنفسهم فذلك عمل محبوب عند الله وثوابه جزيلٌ وعميم .
الله أكبر الله أكبر ، لا إله الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين .
------------------------------------------
[1] قال الحافظ البغوي : ويوم بُعاث يومٌ مشهور كان فيه مقتلةٌ عظيمةٌ للأوس على الخزرج ، وقد مكثت هذه الحرب مائة وعشرين سنة ، حتى جاء الإسلام ، وكان شعر الجاريتين في غنائهما فيه وصف الحرب والشجاعة ، وفي هذا معونة ٌ لأمر الدِّين ، فأما الغناء بذكر الفواحش وذكر الحُرَم والمجاهرة بمنكر القول فهو المحظور من الغناء ، وحاشاه أن يجري شيءٌ من ذلك بحضرته صلى الله عليه وسلم فيُغفل النكير له .
[2] "صحيح البخاري " ( 949 ) . " صحيح مسلم " ( 892 ) .
[3] إسناده عند أحمد ( 2/28 ) قال: حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا الأسود بن عامر أنا أبو بكر عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن بن عمر . وصححه ابن القطان .قال ابن حجر: صححه بن القطان بعد أن أخرجه من الزهد لأحمد كأنه لم يقف على المسند وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه بن القطان معلول لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحاً لأن الأعمش مدلس ولم ينكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر فرجع الحديث إلى الإسناد الأول وهو المشهور . ينظر " تلخيص الحبير " (3/19).
[4] " صحيح البخاري " ( 3/77 ) . ورواه أحمد في المسند " ( 2/505 ) ، والدارمي ( 2/246 ) . ورواه النسائي ( 7/243 ) بلفظ : " يأتي على الناس زمانٌ ما يُبالي الرجل من أين أصاب المال من حلالٍ أو حرام " .
[5] " المسند " ( 5/445 ، 446 ) . " سنن أبي داود " ( 2659 ) . " سنن النسائي " ( 1/365 ) (5/78 ) . " سنن ابن ماجة " ( 1996 ) . وحسَّنه العلامة الألباني ـ رحمه الله ـ في " إرواء الغليل " ( 7/59 ) .
المفضلات