الخطبة الأولى
الحمد لله يغفر الزلات، ويقيل العثرات، يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. أحمده سبحانه وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات. صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد : أيها الناس / فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، التي هي الزاد وبها المعاد ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ))
عباد الله / روى البخاري واللفظ لمسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كان فيمن كان قبلكم رجلٌ قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلمِ أهلِ الأرض، فدُلّ على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فكمَّل به مِائَةً، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُلّ على رجل عالمٍ، فقال: إنه قتل مائةَ نفسٍ، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحولُ بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرضِ كذا وكذا، فإن بها ناسًا يعبدون الله، فاعْبدِ اللهَ معهم، ولا ترجع إلى أرضِك، فإنها أرضُ سوءٍ، فانطلق حتى إذا نَصَف الطريقَ أتاه الموتُ، فاختصمت فيه ملائكةُ الرحمةِ وملائكة ُالعذاب، فقالت ملائكة ُالرحمةِ: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذابِ: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم مَلَكٌ في صورة آدمي، فجعلوه بينهم فقال: قِيسوا ما بين الأرْضَيْنِ، فإلى أيَّتِهِما كان أدْنَى فهو له, فقاسُوهُ فوجدوه أدنَى إلى الأرض التي أرادَ، فقبَضَتْه ملائكة الرحمةِ)).
عباد الله / هذه قصةٌ تفتح بابَ الأمل لكل عاصٍ مهما عظمَت ذنوبُهُ وكبُر جُرْمُهُ، قتل مائةَ نفسٍ، ونفسُهُ لم تخل من نوازِعِ الخيرِ ودوافِعِهِ، بل في أعماقِها بصيص من نورٍ وقليل من أمل وبقية من مخافة الله، ولعله تساءل فيما بينه وبين نفسِه: هل انقطعت علاقتُه بربِّهِ؟ لم يستطع أن يفتي لنفسهِ، فبحث عن عالمٍ يفتيه وهو يعلمُ أنَّ مسألتَه كبيرةٌ لا يستطيعُ أن يفتِيَه فيها إلا مَنْ عَظُم علمُهُ؛ ولِذا لم يسأل عن عالِم، بل سأل عن أعلم أهلِ الأرضِ، ولم يُقدَّر لمَن دلَّه على من يُفتيهِ أن يدُلَّهُ على أعلم أهل الأرض فعلاً، وإنما دلّوه على راهبٍ؛ والرهبانُ كثيرو العبادةِ قليلو العلم، فاستمَع الراهِبُ لمسألتَهُ فاستعظمَ ذنبَه، وظنَّ أنَّ رحمةَ اللهِ تضيق عليه، وأن مثلَ هذا الرجل لا تسعَه رحمةُ اللهِ، وحسْبُك بذلك جهلاً, فمدَّ هذا القاتلُ يدَه إلى هذا الراهبِ فقتله وأتمَّ بقتلهِ المائة لأنه لم يقتنع بجوابهِ، ومع ذلك الأملُ عنده بالله عظيم، فكانت الفتوى من العالم المربي المرشد، فقال له مستغربًا: ومن يحول بينك وبين التوبةِ؟! ودلَّه على الطريق الذي يجبُ عليه أن يسلُكَهُ، فكانت النتيجةُ أن قبضتْهُ ملائكةُ الرحمةِ، وغُفِرت ذنوبه العظيمةِ.
فيا عبد الله/ لا تدع لليأس إلى قلبك طريقًا بسبب ذنب وقعتَ فيه وإن عَظُم، فقد دعا الله إلى التوبة أقوامًا ارتكبوا الفواحش العظام والموبقات الجسام، فهؤلاء قومٌ قتَلوا عبادَه المؤمنين وحرّقوهم بالنار ذكر الله قصتهم في سورة البروج، ومع ذلك دعاهم إلى التوبة: ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)) وهؤلاء قوم نسبوا إليه الصاحبة والولد، فبين كفرَهم وضلالهم ثم دعاهم إلى التوبة: (( أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) وهذه امرأة زنت فحمَلت من الزنا لكنّها تابت وأتت النبي صلى الله عليه وسلم معلنة توبتها طالبة تطهيرها، فلما رجمها المسلمون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لقد تابت توبة لو قُسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم)).
واستمع معي إلى هذا النداء الرباني الذي يفيض رحمة: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )) فماذا تنتظر بعد هذا؟! فقط أقلع واندم واعزم على عدم العودة واطرق بابَ مولاك، ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)) اذرف دموع الندم، واعترف بين يدي مولاك، وعاهده على سلوك سبيل الطاعة، وقل كما قال القائل:
أنا العبدُ الذي كَسِب الذنوبا وصَدَّتهُ الأمـانِيُّ أن يتوبَـا
أنا العبد الذي أضحى حزينا علـى زلاّتـه قلِقا كئيبـا
أنا العبد المسيءُ عَصَيْتُ سرًا فما لِي الآن لا أبدي النحيبَا
أنا العبد المُفَرّطُ ضاع عمري فلم أرْعَ الشَّبيبةَ والمشيبَـا
أنا الْمقطوعُ فارحمني وصِلْنِي ويسِّر منك لِي فرجا قريبـا
أنا الْمضطرُّ أرجو منك عفوًا ومن يرجو رضاك فلن يَخيبَا
وتذكر قول الله عز وجل: ((وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى))
أخي الحبيب/ لا تقل إني ارتكبتُ من الذنوب الكثيرَ وتُبْتُ إلى الله، ولكن ذنوبي تُطارِدُني، فأقول لك: أيها الأخ المسلم، إن هذه المشاعرَ هي دلائلُ التوبة الصادقة، وهذا هو الندمُ بعينه، والندمُ توبةٌ، فالتفت إلى ما سبق بعين الرجاء، رجاء أن يغفر الله لك، ولا تيأس من روح الله، ولا تقنط من رحمة الله، والله يقول: ((وَمَنْ يَقْنَطُ مِن رَحُمَةِ رَبِّهِ إلا الضَّالُّونَ)) قال ابن مسعود رضي الله عنه: (أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوطُ من رحمة الله، واليأس من روح الله). والمؤمن يسير إلى الله بين الخوف والرجاء، وقد يغلب أحدهما في بعض الأوقات لحاجة، فإذا عصى غلب جانب الخوف ليتوب، وإذا تاب غلب جانب الرجاء لطلبِ عفوِ الله.
يا نفسُ توبِي فإنَّ الْموتَ قد حانـا واعصي الهوى فالْهوى ما زال فتَّانا
أمـا ترَيْنَ الْمنايـا كيف تلْقُطُنـا لقطًـا وتلحِـقُ أُخْرانـا بأُولانـا
فِي كل يـومٍ لنـا مَيْتٌ نُشَيِّعُـه نـرى بِمَصْرَعِـهِ آثـارَ موتانـا
يـا نفسُ مـا لي ولَلأَمْوالِ أترُكُها خلفي وأخْرُج من دنيـاي عُريانـا
يا راكضا في ميادين الهوى مَرِحًـا ورافلاً فِي ثيـاب الغَـيِّ نَشْوانـا
مضى الزمانُ وَوَلَّى العُمُرُ فِي لَعِبٍ يكفيك ما قدْ مضى قد كانا ما كانا
اللهم اقبلنا من عبادك التائبين، اللهم ارزقنا التوبةَ النصوحَ قبل الممات يا رب العالمين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله ِغافرِ الذنبِ وقابلِ التوبِ شديدِ العقاب، أحمدُه سبحانه وأشكرُه وأسألُه المزيدَ من فضله وكرمِه، عليه توكلتُ وإليه متاب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُه ورسوله المُختارُ من أشرفِ الأنساب، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى الآلِ والأصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، وتذكَّروا سَعةَ رحمةِ الله وعَظيمَ فضله وحلمِه وجوده وكرمه، حيث قبِل توبةَ التائبين، وأقال عثرةَ المذنبين، ورحم ضعفَ هذا الإنسان المسكين، وأثابه على التّوبة، وفتح له أبوابَ الطهارة والخيرات، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ الله تعالى يبسط يدَه بالليل ليتوبَ مسيء النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوبَ مسيء الليل)) رواه مسلم.
والتّوبة من أعظمِ العبادات وأحبِّها إلى الله تعالى، من اتّصف بها تحقَّق فلاحُه وظهر في الأمور نجاحُه، قال تعالى: ((فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ)) وكفى بفضلِ التّوبة شرفًا فَرَحُ الرّبّ بها فرحًا شديدًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((للهُ أشدُّ فرحًا بتوبةَِ عبدِه من أحدِكم أضلَّ راحلتَه في فلاة عليها متاعُه، فطلبَها حتى إذا أعيَى نام تحت شجرة، فإذا هي واقفةٌ فأخذ بخطامها فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربّك، أخطأ من شدّة الفرح)) رواه مسلم، فاللهُ أشدّ فرحًا بتوبة عبدِه من هذا الذي أضلّ راحلتَه.
اللهم ارزقنا علماً نافعاً ، وعملاً صالحاً ، وتوبةً نصوحاً قبل الممات يارب العالمين ، هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمركم اللهُ بالصّلاة والسّلام عليه ، فقال تعالى ((إنّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصلُّونَ عَلى النّبي يَا أيّها الّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ))
المفضلات