الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ، أوضَحَ مَعالمَ الهُدَى فلا شَكَّ فيها ولا التِباس، وجَعَل الابتلاءَ سنّةً وفي كِتابِه النِّبراس، يُديلُ الدّولَ ويَبتَلي الأممَ، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} أحمدُه تعالى وأَشكُره، وأُثني عليه وأستَغفِره، وأسأَله المزيدَ مِن فضله، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمّدًا عبده ورسوله وخليله ومُصطفاه من بين النّاس، صلّى الله عليه وعلى آلِه وصحبه والتابِعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين.
أما بعد : أيها الناس / أوصيكُم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ فقد قالَ تعالى: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ))
عباد الله / الابتلاءُ سنةُ الله في خلقه، يبتليهم بالخير والشر والضّار والنافع، ليرى صدقَ الصادقين وإقبالَ المقبلين عليه، فمن أُلهم الإنابةَ والتضرع والدعاء عند نزول البلاء فقد أُريد به الإجابة ، والناس في هذه الدنيا متقلبون فيها بين خير وشر ونفع وضر، وليس لهم في أيام الرخاء إلا الشكر والثناء، ولا في أيام المحنة والبلاء إلا الصبر والدعاء، وقد اقتضت حكمةُ الله سبحانه وتعالى أنه ما من ليلٍ إلا بعده صباحٌ، وما من ضيق وشدة إلا بعده فرحٌ ومخرج:
تصبّـر إن عقبَى الصبر خيرٌ ولا تجـزع لنـائبـة تنـوبُ
فإن اليسر بعد العسـر يأتي وعند الضيق تنكشف الكروبُ
وكم جَزعت نفوسٌ من أمور أتى من دونِها فـرجٌ قريـب
والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب يذكرنا بقصة الثلاثةِ الذي اختارهم الله للابتلاء، وكيف أن الله سبحانه نجّاهم بإخلاصهم وصدقهم ودُعائهم له سبحانه وتعالى، يقول عليه الصلاة والسلام(انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوُا الْمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ فَقَالُوا إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمُ اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَىْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلاً أَوْ مَالاً، فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَىَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ (( الله أكبر عباد الله، فهذا الرجل بلغ مبلغًا عظيمًا في بره بوالديه لأن الله عز وجل قال: ((وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَـٰنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا )) وقال: ((وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا))وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه : أقبل رجلٌ إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله، فقال: ((هل لك من والديك أحد حي؟)) قال: نعم بل كلاهما، قال: ((فتبتغي الأجر من الله تعالى؟!)) قال: نعم، قال: ((فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما)) متفق عليه.
قال الثاني: ((اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَىَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا قَالَتْ لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ.
فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهْىَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَىَّ وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ. فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ مِنْهَا ))
الله أكبر عباد الله، مخافة الله جعلت هذا الرجل ينصرف عن ابنة عمّه، والتي تمكن منها بعد أن وعظته بتقوى الله عز وجل.
أما الثالث فقال: ((اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ، غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَىَّ أَجْرِي. فَقُلْتُ لَهُ كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالرَّقِيقِ. فَقَالَ يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئْ بِي. فَقُلْتُ إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ. فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَاسْتَاقَهُ فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ فَخَرَجُوا يَمْشُونَ)) متفق عليه.
الله أكبر عباد الله، حفظ مال أجيره، بل ونماه، ولمّا رجع إليه أخذ كل شيء له، سبحان الله عباد الله، أين هذا الرجل لينظر صورَ الظلم لهؤلاء الأجراء والعمال في هذا الزمن وما يقوم به الكفلاء نحو مكفوليهم؟! بعضهم يؤخر مرتبه شهورًا عديدة أو يعطيه جزءًا منه ويماطل في الجزء المتبقي، فيتذلل هذا العامل لكفيله، ولربما سابقت دموعُه كلماتِه، لكن دون جدوى، فأين هؤلاء من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) رواه ابن ماجه؟!
عباد الله/ من أعظم العبر والدروس من قصة هؤلاء الثلاثة التعرف على الله في الرخاء، فإن هؤلاء الثلاثة دعوا الله بإخلاص، واستذكروا أعمالاً صالحة كانوا تعرفوا فيها على الله في أوقات الرخاء راجين أن يتعرف إليهم ربهم مقابلها في أوقات الشدة، كما ورد في الحديث الصحيح: ((تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة)) رواه أحمد.
وانظروا ـ عباد الله ـ فضل بر الوالدين وخدمتهما وإيثارهما على الولد والأهل وتحمل المشقة لأجلهما، وانظروا ثمرة العفاف والكف عن الحرام، وكذلك فضل حُسن العهد وأداء الأمانة والسماحة في المعاملة.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل بعد الشدة فرجًا، ومن الضيق سعة ومخرجًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: عباد الله، يقول الله تعالى: ((أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء ٱلأرْضِ أَءلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)) وقال تعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دٰخِرِينَ)) وقال عليه الصلاة والسلام لابن عباس رضي الله عنه: ((واعلم أن النصر مع الصبر والفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا)) رواه أحمد وصححه الألباني، وكتب عمر رضي الله عنه لأبي عبيدة رضي الله عنه: (مهما نزل بامرئٍ من شدة إلا جعل الله بعدها فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين).
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من عباده المتقين، ولازموا الاستغفار، فمن لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ورزقه من حيث لا يحتسب.
اللهم اجعل لنا من كل هم فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا، اللهم فرّج همّ المهمومين ونفِّس كرب المكروبين.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد فقد أمركم اللهُ بالصّلاة والسّلام عليه فقال تعالى ((إنّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصلُّونَ عَلى النّبي يَا أيّها الّذينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ))
المفضلات