الحمدُ للهِ المبدئِ المعيدِ ، الفعالِ لما يريدُ ، ذي العرشِ المجيدِ ، والبطشِ الشديدِ ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ وسلم عليه ،وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الوعيدِ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ).أما بعدُ: أيهُا الأحبةُ في الله: فَإنَّ النَّفسَ لَهَا تَأثِيرٌ بالغٌ على حياةِ الإنسانِ في الدُّنيا ، ومصيرِهِ في الآخرةِ ،وَقد اتفق عُلماءُ السلف ، على أن النَّفسَ قاطعٌ وحَاجِزٌ بين القلب ، وبين الوصول إلى الرب، وأنك لن تستطيع أن تصلَ إلى مرضاةِ اللهِ عزَّ وجلَ ، والنجاةَ يوم القيامةِ ، إلا بعد تَهذِيبِهَا والسيطرةِ عَليهَا، ولا سبيل إلى ذلكَ إلاَّ عن طريقِ الشرع المطهر، باتباع ما جاءت بهِ الرُّسل عن رب العالمين جل وعلا. وقد بين الله لنا هذا المعنى في قوله تعالى هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) قال تعالى" ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)والتزكية في اللغة: الطهارة والنماء والزيادة .والمراد بها ها هنا : إصلاح النفوس وتطهيرها ، عن طريق العلم النافع . والعمل الصالح ، وفعل المأمورات وترك المحظورات ،لأنَّ جميعَ ما تأمرك به النّفس ، سوفَ تَجدهُ أمامك ، إن خيرا فخير ، وإن شرّاً فشرّ ، يقولُ تعالى( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)ويقولُ سُبحانه(هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) ويقول سُبحانه(لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) كم هي خطيرة تلك النفس لأن نتيجةَ صلاحِهَا وفسَادِهَا لا يؤثر على حياة الفرد ومصيرِهِ في الدُّنيا والآخرةِ فحسب ، بل يؤثر على المسلمين عامة ، وهذا ما نلمسه في واقِعِنا ، إلا من رَحِم الله ، ففي خِضَمِّ شؤون الحياة المعاصرة ، وكثرة مشاغلها وتَعدُد مُتطلبَاتِها ، قد ننسى أن نتعاهد أنفسنا بالتربية و التزكية ، ومن ثم تقسو القلوب ، ونتثاقل عن الباقيات الصالحات ، ونركن إلى متاع الدنيا وزخرفها . لذلك كان هذا الموضوع من الأهمية بمكان ، ومما يوضح أهمية هذا الموضوع ، أن الله تعالى أقسم أقساماً كثيرةً ومتواليةً على أن صلاحَ العبدِ وفلاحِهِ مَنوطٌ بتزكيةِ نفسِهِ ، فقال سبحانه : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا* قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا* وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) وقال سبحانه : ( قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) وكان الأنبياء عليهم السلام يدعون إلى تزكية النفوس ، فهذا موسى عليه السلام يقول لفرعون هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ) وقال تعالى عن نبينا محمد e (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) وتزكية النفس سبب الفوز بالدرجات العلى ، والنعيم المقيم ، كما قال عز وجل : (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى ) أي طهّر نفسه من الدنس والخبث والشرك ، وعبد الله وحده لا شريك له ، واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خبر وطلب ، وكان من دعائهe{اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِى تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ وَمِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ وَمِنْ دَعْوَةٍ لاَ يُسْتَجَابُ لَهَا } رواه مسلم ، ولن تستطيع أن تصل إلى ما تريد ، إلا إذا انتصرت على نفسك ، وكبحت جماحها. قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " لا يستطيع الإنسان أن يحقق المعالي من الأمور ، إلا بمجاهدة نفسه ، وجعلها عدوة له "ويقول ابن رجب: " النفسُ تَحتَاجُ إلى مُحَارَبةٍ ومُجَاهَدَةٍ ومُعادَاة ، فإنَّها أعدى عدوٍ لابنِ آدم ، فَمَنْ مَلَكَ نفسَهُ وقَهرَهَا ودَانَها عزّ بذلك ، لأنه انتصرَ على أشدِّ أعدائِهِ وقَهَرَهُ واكتَفى شَرَّهُ "يقول الغزالي رحمه الله:اعلم أن أعدى عدوكَ ،نفسك التي بين جنبيك، وقد خُلِقَتْ أمارةً بالسوءِ ، مُبالغةً في الشّرِّ ، فرارةً من الخير، وَأُمِرْتَ بتزكيتِها ، وتقويمها ، وقودها بسلاسل القهر ،إلى عبادةِ ربِّهَا وخالِقِهَا، ومَنعِهَا عن شَهوَاتِهَا، وفطامها عن لذَّاتِهَا، فإن أهملتَهَا جَمحت وشَرَدَت ، ولم تظفر بها بعد ذلك .يقولُ عُمر بن الخطّاب رضي الله عنه "كفى بالمرء عيباً أن يستبين له من الناس ما يخفى عليه من نفسه، ويمقت الناس فيما يأتي" رواه ابن المبارك في الزهد،
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،
ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة فاستغفِروه، فقد فاز المستغفِرون
الحمد لله على إحسانه ، والشكرله على توفيقهِ وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وحدهُ لا شريكَ لهُ ، تعظيماً لشانه ، وأشهد أنَّ نبينا محمّداً عبده ورسولُه ، الدّاعي إلى رضوانه ، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه ، وسلّم تسليماً مزيداً ، أمَّا بعد :أيُّها الأحبةُ في الله ، فقد وصف الله سبحانه تعالى النفس في القرآن الكريم بثلاثة صفات، الصفة الأولى: النفسُ الأمارةُ ، وهي التي تأمرُ صاحبَها بِمَا تَهواه ، فإن أطاعها العبد ، قادته لكل قبيح ومكروه .قال تعالى( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) فأخبر سبحانه وتعالى عن تلك النفس أنها أمارة وليست (آمرة) لكثرةِ ما تَأمرُ بالسوءِ، ولأن ميلَهَا للشهواتِ والمطَامِعِ صار عادةٌ فيها ، إلا إن رحمها الله عز وجل وهداها رُشدِهَا ، أما الصفة الثانية، فهي اللوامة ، وهي النفس التي تندم على ما فاتَ وتلومُ عليه ، وهذه نفسٌ لا تَثبتُ على حال ، فهي كثيرةُ التَّقلبُ والتلون ، فتذكُرُ مرةً وتغفلُ مرة، وَتقاومُ الصفاتِ الخبيثةِ مرة ، وتنقادُ لَهَا مرة، تُرضي شهواتِهَا تارة، وتوقِفُها عند الحد الشرعي تارة . وقد أقسم الله تعالى بها وذلك في قوله" (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ*وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) " قال الحسنُ رحمه الله : هي والله نفس المؤمن ، ما يُرى المؤمنُ إلاَّ يلومُ نفسَهُ قائلاً: ما أردتُ بكلامي؟ ما أردتُ بأكلي؟ ما أردت بحديثِ نفسي؟ والفَاجِرُ لا يُحاسِبُ نفسهَ ،وقال مجاهد : هي التي تلومُ على ما فاتَ وتَندَم ، فتلوم نفسها على الشرِّ لم فعلته، وعلى الخير لم لا تَستَكثِرُ منه . يقول الغزالي رحمه الله: إن لازمت نفسكَ بالتوبيخِ ، والمعاتبةِ ، والعذلِ ، والملامةِ ، كانت نفسُكَ هي النَّفسُ اللوامة ، التي أقسمَ اللهُ بِهَا ، ورجوت أن تصير النَّفسَ المطمئنةِ المدعوةِ إلى أن تَدخلَ في زمرةِ عبادِ الله راضيةً مرضيةً ، فلا تغفلن ساعةً عن تذكيرها ومعاتبتها، ولا تشتغلن بوعظ غيرك ، ما لم تشتغل أولاً بوعظ نفسك.أما الصفةُ الثالثة : فَهي النَّفس المطمئنة، وهي تلك النفس التي سكنت إلى الله تعالى واطمأنت بذكره وأنابت إليه وأطاعت أمره واستسلمت لشرعه واشتاقت إلى لقائه، كرهت كل معصية وأحبت كُلَّ طاعةٍ ، وتخلَّصت من الصفاتِ الخبيثةِ من الشُّحِ والأنانيةِ واللؤمِ والخيانةِ ، واستقرت على ذلك ، فهي مطمئنةً، وهذه النفس هي التي يُقال لها عند الوفاة"(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ*ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً*فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي )هذه هي أحوال النفس التي تتردد عليها والنفس تكون تارة أمارة وتارة لوامة وتارة مطمئنة، بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا ،عباد الله صلّوا على المعصومِ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتم التسليم ، فإنه يقولُ بأبي هو وأُمي ويقولُ بأبي هو وأمي { من صلى علي صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشراً } اللهم صلِّ وسلمْ وأنعمْ وأكرمْ وزدْ وباركْ ، على عبدك ورسولك محمد ، وارضَ اللهم عن أصحابِهِ الأطهارِ ، ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ ، أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين ، وعن التابعينَ وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ ، وعنَّا معَهم بمنِّكَ وفضلِكَ ورحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ . اللهم أعزَّ الإسلامَ المسلمينَ ، ودمرْ أعداءَ الدينِ من اليهودِ والنصارى ، وجميعِ الكفرةِ الملحدينَ ، اللّهُم يا عظيمَ العفوِ ، ويا وسعَ المغفرةِ ، ويا قريبَ الرّحمةِ ، ويا ذا الجلالِ والإكرامِ ، هبْ لنا العافيةَ ، في الدُنيا والآخرةِ ، اللّهُم اجعلْ رزقَنَا رغداً ، ولا تُشمتْ بنا أحداً ، اللّهُم يا عظيمَ العفوِ ، ويا وسعَ المغفرةِ ، ويا قريبَ الرّحمةِ ، ويا ذا الجلالِ والإكرامِ ، هبْ لنا العافيةَ ، في الدُنيا والآخرةِ ، اللهُم اعطْنا ولا تحرمْنا ، وجُدْ علينا بكريمِ نوالِكْ ، وتتابُعِ حفظانِكْ ، اللهُم خُذْ بأيدينا إلى ما تحبُ وترضى ، اللهُم زكِّ أقوالَنا وأعمالَنا وعُقولَنا ، واهدْنا ويسرْ الهدى لنا اللهُم يا منْ لا يُعاجلُ بالعقوبهْ ، ألهمْنا حُسنَ التُوبةِ إليكْ ، وجميلَ التوكلِ عليكْ ، وعظيمَ الزُلفى لديكْ ، نحن بكَ وإليكْ ، تباركتْ ربَّنا وتعاليتْ ، فيا أهلَ المغفرةِ إغفرْ لنا ، ويا أهلَ التقوى إستعملْنا في طاعتكْ ، ويا مُقلبَ القلوبِ ثبتْ قلوبَنا على دينِكْ ، اللهم احفظْ بلادَنا وولاةَ أمرِنا وعلماءَنا ودُعاتَنا ، اللهم وحِّدْ كلمتَنا وقوي شوكتَنا ياربَّ العالمينَ ، واجعلْ هذا البلدَ رخاءً سخاءً ، وسائرَ بلادِ المسلمين يا ربَّ العالمين ، ربنا ( آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) عباد الله ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) فاذكروا الله العظيم الجليل يذكرْكم ، واشكروهُ على نعمه يزدْكم ولذكر الله أكبر والله والله يعلم ما تصنعون..
المفضلات