الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا))
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل وجاء رسول الموت والقلب غافل
نعيمك في الدنيـا غرور وحسـرة وعيشك فِي الدنيـا محال وباطل
عباد الله / ها هو فصل الشتاء تنزّل برده واشتد ، فصل الشتاء الذي طال ليله وقصر نهاره، وللمؤمن مع الشتاء أحوال وأحكام، إذ هو يتفاعل مع التغيرات الكونية والأحوال المناخية بهدي كتاب الله تعالى وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فيتحقّق إيمانه ويوثق صلته بالله سبحانه وتعالى، فإن تقلب الأحوال الكونية من صيف وشتاء وليل ونهار وجفاف وأمطار وسكون ورياح يعزِّز إيمان المؤمن بأن الله تعالى خالق الكون ومدبره، ((وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ)). ويقول سبحانه ((إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))
عباد الله / الشتاء ربيع المؤمن الذي يستغل حلوله فيما يقربه إلى الله تعالى، فقد أخرج الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري عن النبي عليه الصلاة والسلام قوله: ((الشتاءُ ربيعُ المؤمنِ ))، وزاد البيهقيُّ وغيرُه: ((طال ليلُه فقامه، وقصر نهارُه فصامه))
وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن ـ عباد الله ـ لأنه يرتع في بساتين الطاعات ويسرح في ميادين العبادات وينزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة، فإذا ما نزل الغيث و الأمطار أو هبت الرياح أقر بفضل الله وقدرته ودعا بما سنه النبي عليه الصلاة والسلام من الأدعية والأذكار .
عباد الله / وفي فصل الشتاء تشتد الحاجة إلى بعض الرخص التي شرعها الإسلام بسماحته ويسره ففي الشتاء يرخص للمسلم أن يمسح على الجوارب درءاً للمشقة ، يوما وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، بشروط مبينة في كتب الفقه. كما يرخص للمسلمين الجمع بين الصلوات وقت اشتداد المطر وحدوث البلل أو الوحل أو البرد، وإن حدثت مشقة في الاجتماع للصلاة جاز للمرء أن يصلي في بيته لقول ابن عمر رضي الله عنه: كان النبي عليه الصلاة والسلام ينادي مناديه في الليلة الباردة أو المطيرة: (صَلُّوا في رِحالِكُم)، وإن كان الأمر ميسرا في زماننا ولله الحمد فالطرق معبدة والسيارات متوفرة والمساجد قريبة، ولكن هذا من يسر الإسلام وسماحته، والرخصة ـ عباد الله ـ سعة وتسهيل متى ما تحققت شروطها، والأولى بالمسلم أن يتحرى الوسطية فلا يتساهل بالأخذ بها ويخرج الصلاة عن وقتها فالصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا دون تحقق لمبررات الرخصة، ولا يتشدد تشددا يسبب المشقة على المسلمين.
ومما يعتني به المسلم في الشتاء إسباغ الوضوء وإتمامه، فلا يعجله الشعور بالبرد عن إكمال الوضوء لأعضائه وإتمامها، بل إن ذلك الإتمام والإسباغ وقت المكاره هو مما يكفر الله به الخطايا، و المكاره تكون بشدة البرد أو الحر أو الألم، فيحتسب المسلم تلك الشدة وهو يتوضأ بأنها من مكفرات الخطايا ورافعات الدرجات يقول عليه الصلاة والسلام: ((أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ )) قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ ((إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَىالْمَكَارِهِوَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْالرِّبَاطُ)) رواه مسلم
نسأل الله تعالى أن يعمنا بفضله ويكرمنا بنعمته ويمن علينا بعافيته، فهو الجواد الكريم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله علَى إحسانِه، والشّكرُ له علَى توفيقه وامتِنانِه، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهَد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُه ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحَابه وسلم
تسليماً كثيراً .
عباد الله / نحن نعيش الآن في نعمة لا تقدر بثمن، فنلبس ونغير في كل عام، ونقتني كل واقٍ يقينا من شدة البرد، فننام ملتحفين، ونخرج إلى مساجدنا مثل ذلك، ويعيش بعضنا وكأنه في وسط الصيف، ليس ذلك إلا من نعمة الخالق سبحانه عز وجل، فلنحبَّ للناس ما نحبُّه لأنفسنا، فإذا مرت عليك ـ أيها المسلم ـ ليلة شاتية وذقت فيها البرد القارص ففررت إلى مكان دافئ وغصت بين أحضان فراش وفير اعلم حينها أن هناك من يشاركك الشعور بالبرد ولكن لا يجد وسائل الدفء، هناك من يفترش الأرض ويلتحف السماء لا يجد له من دون الأرض مفرشا، ولا يجد له من البرد غطاء. فالأموال متيسرة عند الكثير، والثياب والألبسة الزائدة عند الكثير منَّا لم تلبس، ولم تنفق للمحتاجين، بل هي أسيرة في المستودعات أو في سلة المهملات، ووالله إن إخوانا لنا في شتى بلدان العالم ؛ وأقرب مثال إخواننا في سوريا الجريحة الذي أجتمع عليهم التقتيل والتشريد من قبل طاغيتهم – مزق الله ملكه – وبرودة الطقس الذي مزق أوصالهم وأسال دموعهم وجمد جلودهم وأذاقهم الحزن الأليم، يقول أحدهم:
أتدري كيـف قابلـنِي الشتـاء وكيف تكون فيه القرفصـاء
وكيـف البـرد يفعـل بالثنايـا إذا اصطكت وجاوبَها الفضاء
فـإن حـل الشتـاء فأدفئـونِي فإن الشيـخ آفتـه الشتـاء
أتدري كيـف جارك يـا ابن أمي يهـدده مـن الفقـر العناء
وكيـف يـداه ترتجفـان بؤسًـا وتصدمـه المذلـة والشقـاء
يصـب الزمهريـر عليـه ثلجًـا فتجمـد في الشرايين الدمـاء
هــذا الآدمـي بـغـيـر دار فهل يرضيك أن يزعجه الشتاء
يَجـوب الأرض مـن حـي لحي ولا أرض تقـيـه ولا سمـاء
مـعـاذ الله أن ترضـى بـهـذا وطفل الْجيل يصرعه الشتـاء
أتـلـقـاني وبي عـوز وضيـق ولا تحنو؟ فمـا هذا الْجفـاء
أخـي بالله لا تَجـرح شعـوري ألا يكفيك ما جرح الشتـاء
فهم إخوانكم ينتظرون جودكم ومواساتكم ووقوفكم معهم وهذا من صور شكر الله على ماأنعم عليكم به من نعم وهو القائل (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ))
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم ربُّكم بالصلاة والسلام عليه ؛ فقال: ((إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا))
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك وأنعم على عبدك ونبيك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة ...
المفضلات