الحمدُ للهِ المبدئِ المعيدِ ، الفعالِ لما يريدُ ، ذي العرشِ المجيدِ ، والبطشِ الشديدِ ، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أن سيدَنا محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ وسلم عليه ،وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الوعيدِ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَائلونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ).أما بعدُ: أيهُا الأخوةُ في الله :فَإنَّ هناكَ مواعظٌ كونيةُ ، غير الشرعيّه ، أوجدها الله في الكون ، منها المرئية ، يراها الناس بالعين فيزدادون إيمانا ، ويداومون الانقياد والاستسلام لله تعالى، ومنها المسموعة ، ليسمعها النَّاس فَيَعُونَهَا ويَعمَلُونَ بِهَا ، ويدعون الناسَ بها و إليها، ومنها المحسوسة ، التي تُدرَكُ بالحسّ ، ليبقى عند الإنسانِ إحساسُ بالعملِ ، وإعراضٌ عن الكسلِ. وكلُّ هذه الآيات ، ليبقى المسلِمُ على صلةٍ بربِهِ، فيعبدُهُ وكأنَّه يراه، ويتقيهِ حيثُ كان، ويُتبِعُ السيئةَ الحسنةَ حتى تَمحُوها ، ليكون المسلم على بصيرةٍ من أمرِهِ ، يُصبِحُ ويُمسي وقد عَزَفَت نفسُهُ عن الدُّنيا، فَيُظمأُ نَهَارُهُ بالصيامِ، ويُسهِرُ ليلُهُ بالقيامِ، ويُحسِنُ العمَلَ في الدُّنيا ، لَيَحسُنَ له الوقوفُ بينَ يدي الله يوم القيامة وإن من المواعظِ الكونيةِ التي نَراهَا بأبصَارِنَا ونَسمَعُها بآذاننا ونُحس بها بِحَواسِّنا ، وكان الإحساسُ بِهَا في الليلِ وفي النَّهار وفي الشبابِ وفي الهرَمِ ، وفي الصّحةِ وفي السَقَمِ،موعظةُ الشّتَاء. فَإنَّ هذا البردَ الَّذي نُعاني مِنهُ في بعضِ الأحيانِ ، ويَتمنَّى البعضُ سرعةَ ذهابِهِ ، إِنَّما هوَ موعِظةٌ ، هُوَ نَفسٌ مِن أَنفاسِ النَّارِ ، وجزءٌ من عذابِها وزمهريرِها ، فإن اللهَ تعالى يُعذبُ أهلَ النارِ بالبردِ ، كما يعذبُهم بالحرِّ ، فمهما اشتدَّ البردُ أو الحرُ ، على العبدِ في هذه الحياةِ وقاسى منه وتألمَ ، فإن ذلك لا يَعدُو أَنْ يَكونَ نَفَسًا واحدًا من أنفاسِ النارِ ، أعَاذني اللهُ وإِيَّاكم منها ، ففي الحديثِ عن أبي هريرةَ رضي اللهُ عنه قالَ: قالَ رسولُ الله e: { اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِى بَعْضًا. فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِى الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ } رواه البخاري ومسلم.فيا عبدَ اللهِ، تذكرْ وأنتَ تَفِرُّ من بَردِ الدُّنيا وتَتقيهِ ، وتستعدُ له بما تجدُ من ملابسٍ ، ووسائلِ تدفئةٍ لكَ ولأفرادِ أُسرتِكَ ، تَذكَّرْ زَمهرِيرَ جَهنمَ ، الذي لا واقي منهُ ولا حاميَ ، إلا التقوى والعملُ الصالحُ ، بعدَ رحمةِ اللهِ وفضلِهِ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم: 6]أيُّها الأحبةُ في اللهِ، إنّ أخذَ الأهبةِ لهذا الفصلِ من العامِ ، والاستعدادَ له بأنواعِ الملابسِ والمدافئ ، لَهو من بابِ الأخذِ بالأسبابِ ، التي هيأَها المولى سبحانَهُ لنا وأنعمَ بها علينا، ولقد امتنَّ سبحانه على عبادِهِ بأنْ خلقَ لهم من أصوافِ بهيمةِ الأنعامِ وأوبارِها وأشعارِها ما فيهِ دفءٌ لهم، فقال سبحانه (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ *وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أخرجَ الإمامُ أحمدُ رحمه اللهُ من حديثِ أبي سعيدٍ الخدري رضي اللهُ عنه عن النبي eقال: {الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ}.وزادَ البيهقي وغيره: {قَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَ وَطَالَ لَيْلُهُ فَقَامَ} قال ابنُ رجبٍ رحمه الله في اللطائفِ: وإنما كان الشتاءُ ربيعَ المؤمنِ لأنه يرتعُ فيهِ في بساتينِ الطاعاتِ، ويسرحُ في ميادينِ العباداتِ، وينزِهُ قلبَهُ في رياضِ الأعمالِ الميسّرةِ فيهِ، كما ترتعُ البهائمُ في المرعى الربيعِ، فتسمنُ وتُصلِحُ أجسادَها، فكذلك يصلحُ دينُ المؤمنِ في الشتاءِ ، بما يسرَ اللهُ فيهِ من الطاعاتِ، فإن المؤمنَ يقدرُ في الشتاءِ ، على صيامِ نهارِهِ من غيرِ مشقةٍ ولا كلفةٍ ، وجاءَ في المسندِ والترمذي عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ الْجُمَحِىِّ أنَّ النبيَّ e قال: {الصَّوْمُ فِى الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ}، وكان أبو هريرةَ رضي اللهُ عنه يقول: ألا أدلُّكم على الغنيمةِ الباردةِ؟ قالوا: بلى، فيقولُ: الصيامُ في الشتاءِ.وأما قيامُ ليلِ الشتاءِ فلطولِهِ يمكنُ أن تأخذَ النفسُ حظَّها من النومِ، ثم تقومُ بعدَ ذلك إلى الصلاةِ، فيقرأُ المصلي وردَهُ كلَّهُ من القرآنِ وقد أخذتْ نفسُهُ حظَّها من النومِ، فيجتمعُ له فيهِ نومُهُ المحتاجُ إليهِ مع إدراكِ وردِهِ من القرآنِ، فيكملُ له مصلحةُ دينِهِ وراحةُ بدنِهِ. وكان ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه يقولُ:[مرحبًا بالشتاءِ، تنزلُ فيه البركةُ، يطولُ فيه الليلُ للقيامِ، ويقصرُ فيهِ النهارُ للصيامِ] ومن كلامِ يحيى بنُ معاذٍ: "الليلُ طويلٌ فلا تقصرُهُ بمنامِكَ، والإسلامُ نقيٌ فلا تدنسُهُ بآثامِكَ"
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم،
ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمَعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة فاستغفِروه، فقد فاز المستغفِرون
الحمد لله على إحسانه ، والشكرله على توفيقهِ وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وحدهُ لا شريكَ لهُ ، تعظيماً لشانه ، وأشهد أنَّ نبينا محمّداً عبده ورسولُه ، الدّاعي إلى رضوانه ، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه ، وسلّم تسليماً مزيداً ، أمَّا بعد :أيُّها الأحبةُ في الله ، ومن المواعظ اليقين بأن دين الإسلام دين اليسر، وأن الله لم يكلفنا ما لا نطيق، وأنه لم يجعل علينا في الدين من حرج، وأنه أمرنا أن نتقيه حسب الاستطاعة، قال تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ) [البقرة:185]، ويقول: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن:16]، ويقول: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج:78]، ولم يخيَّرe بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وقالe:كما في البخاري من حديثِ أنس بن مالك رضي الله عنه { يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا } ونستفيد هذا من جواز الجمع بين الصلاتين عند العذر ، من مطر ونحوه، وجواز المسح على الخفين للمقيم يوم وليله ، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها، وجواز المسح على العمامة، ونحو ذلك.ومن المواعظ الصبر على الطاعات، وتحمل الأذى في سبيل الله، فإن الصبر أوسع عطاء وأجزل وفاء، وهو الضياء، وهو النصر على النفس وعلى الشيطان وعلى الأعداء، وبالصبر على الطاعة يمحو الله الخطايا ويرفع الدرجات، يقول e: { لاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ} قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ {إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ} ونستفيد هذا من قولِهِ:e { إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ } أي: على البردِ وتَحمّلُ ذلكَ في سبيلِ الله. عباد الله صلّوا على المعصومِ عليهِ أفضلُ الصلاةِ وأتم التسليم ، فإنه يقولُ بأبي هو وأُمي ويقولُ بأبي هو وأمي { من صلى علي صلاةً صلى اللهُ عليه بها عشراً } اللهم صلِّ وسلمْ وأنعمْ وأكرمْ وزدْ وباركْ ، على عبدك ورسولك محمد ، وارضَ اللهم عن أصحابِهِ الأطهارِ ، ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ ، أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين ، وعن التابعينَ وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ ، وعنَّا معَهم بمنِّكَ وفضلِكَ ورحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ . اللهم أعزَّ الإسلامَ المسلمينَ ، ودمرْ أعداءَ الدينِ من اليهودِ والنصارى ، وجميعِ الكفرةِ الملحدينَ ، اللّهُم يا عظيمَ العفوِ ، ويا وسعَ المغفرةِ ، ويا قريبَ الرّحمةِ ، ويا ذا الجلالِ والإكرامِ ، هبْ لنا العافيةَ ، في الدُنيا والآخرةِ ، اللّهُم اجعلْ رزقَنَا رغداً ، ولا تُشمتْ بنا أحداً ، اللّهُم يا عظيمَ العفوِ ، ويا وسعَ المغفرةِ ، ويا قريبَ الرّحمةِ ، ويا ذا الجلالِ والإكرامِ ، هبْ لنا العافيةَ ، في الدُنيا والآخرةِ ، اللهُم اعطْنا ولا تحرمْنا ، وجُدْ علينا بكريمِ نوالِكْ ، وتتابُعِ حفظانِكْ ، اللهُم خُذْ بأيدينا إلى ما تحبُ وترضى ، اللهُم زكِّ أقوالَنا وأعمالَنا وعُقولَنا ، واهدْنا ويسرْ الهدى لنا اللهُم يا منْ لا يُعاجلُ بالعقوبهْ ، ألهمْنا حُسنَ التُوبةِ إليكْ ، وجميلَ التوكلِ عليكْ ، وعظيمَ الزُلفى لديكْ ، نحن بكَ وإليكْ ، تباركتْ ربَّنا وتعاليتْ ، فيا أهلَ المغفرةِ إغفرْ لنا ، ويا أهلَ التقوى إستعملْنا في طاعتكْ ، ويا مُقلبَ القلوبِ ثبتْ قلوبَنا على دينِكْ ، اللهم احفظْ بلادَنا وولاةَ أمرِنا وعلماءَنا ودُعاتَنا ، اللهم وحِّدْ كلمتَنا وقوي شوكتَنا ياربَّ العالمينَ ، واجعلْ هذا البلدَ رخاءً سخاءً ، وسائرَ بلادِ المسلمين يا ربَّ العالمين ، ربنا ( آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) عباد الله ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) فاذكروا الله العظيم الجليل يذكرْكم ، واشكروهُ على نعمه يزدْكم ولذكر الله أكبر والله والله يعلم ما تصنعون..
المفضلات