الخطبة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمد عبده
ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .......
أما بعدُ، فاتَّقوا الله - معاشرَ المؤمنين - حقَّ التَّقوى، وأصْلِحوا أقوالكم وأحوالكم، تصلح لكم أعمالكم وآخرتكم؛ ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))
عباد الله / في الجمعة التي مضت تكلمنا عن الوصف التي تهفو له القلوب، والوسام الذي تمتدُّ نحوه الأعناق،ألا وهو البركة والحصول عليها ، وكيف يكون مباركاً ،وفي هذه الجمعة نتكلم عن الأسباب التي تمحق البركة وتذهبها ، فنقول من الأسباب: ضعف الإيمان بالله تعالى وعدم ترويض القلب على القناعة والغنى؛ فإن حقيقة الفقر والـغـنـى تكون في القـلب؛ فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى بالرضى والبركة ، وإن كان لا يجد قـوت يـومـه،قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من أصبحَ منْكم آمناً في سِرْبِهِ، معافىً في جَسَدِهِ، عنْده قُوتَ يوْمهِ، فكأنّما حِيزَتْ لَهُ الدّنيا بِحَذَافِيرِهَا )) رواه الترمذي ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَ اللهَ يبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَاَ أَعْطَاهُ، فَمْن رَضَى بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ بَاَرَكَ اللهُ لَهُ فِيهَ وَوَسْعًهُ، وَمِنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكَ لَهُ)) رواه أحمد .
وفي المقابل من كان فقير القلب؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهماً واحداً لرأى غناه في ذلك الدرهم؛ فلا يزال فقيراً حتى يناله قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ)) رواه البخاري
فقناعةُ المؤمن ورضاه بما قسم الله له من رزق، وعدمُ سؤالِه وتطلعه إلى ما عند الآخرين، سببٌ عظيم من أسباب البركة، ولو كان رزقُه قليلاً،كما أن السؤال وحرص النفس وطمعَها إلى ما عند الآخرين، سبب عظيم من أسباب محق البركة، ولو كان هذا المال الذي سيحصل عليه كثيراً قال تعالى (( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)) وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بَيْنَا رَجُلٌ بِفَلاةٍ مِنْ الأَرْضِ،فَسَمِعَ صَوْتًا فِي سَحَابَةٍ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ فَتَنَحَّى ذَلِكَ السَّحَابُ، فَأَفْرَغَ مَاءَهُ فِي حَرَّةٍ، فَإِذَا شَرْجَةٌ مِنْ تِلْكَ الشِّرَاجِ قَدْ اسْتَوْعَبَتْ ذَلِكَ الْمَاءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الْمَاءَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الْمَاءَ بِمِسْحَاتِهِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ: مَا اسْمُكَ قَالَ فُلانٌ لِلاسْمِ الَّذِي سَمِعَ فِي السَّحَابَةِ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدَ اللَّه:ِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنْ اسْمِي؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فِي السَّحَابِ الَّذِي هَذَا مَاؤُهُ يَقُولُ اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ لاسْمِكَ فَمَا تَصْنَعُ فِيهَا؟ قَالَ: أَمَّا إِذْ قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَا يَخْرُجُ مِنْهَا فَأَتَصَدَّقُ بِثُلُثِهِ، وَآكُلُ أَنَا وَعِيَالِي ثُلُثًا، وَأَرُدُّ فِيهَا ثُلُثَهُ))
ومن أسباب محق البركة : كثرةُ الذنوب وانتشارها فهي من أهم أسباب محق البركة فللمعصية أثر عظيم في محق بركة المال والعمر والعلم والعمل فعن عن ثوبانَ مولَى رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ((لا يَزيد في العُمْر إلا البِر، ولا يردُّ القدَرَ إلاَّ الدُّعاء، وإنَّ الرجل ليُحرم الرِّزقَ بالذنب يُصيبه)) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني ، فالعاصي كلما ازدادت معصيتُه ازداد بُعْداً من الله ولا ينال ما عنده إلا بطاعته والقرب منه.
ومن أسباب محق البركة : التفرغُ للدنيا وجعلُها أكبرُ الهموم والاهتمام فلم يتحرى الحلالَ في كسبه ؛ ولكن شغلت الدنيا أكثرَ وقته وسيطرت على تفكيره ، فلا يبالي بماله أجمعه من حلال أم من حرام ،فقد روى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ)) وروى البخاري عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي ثُمَّ قَالَ: «هَذَا الْمَالُ» وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ قَالَ لِي: «يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ وَكَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى».
ومن أسباب محق البركة عباد الله : الكذبُ في المعاملة من بيعٍ وشراء وتجارة وشراكة ونحوها وكذلك التدليسُ فيها فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا،وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا)) أسأل الله تعالى الكريم رب العرش العظيم أن يتولاك في الدنيا والآخرة ، وأن يجعلك مباركاً أينما كنت ، وأن يجعلك ممن إذا أُعطي شكر ، وإذا ابتُلي صبر ، وإذا أذنباستغفر .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد : عباد الله / فمن أسباب محق البركة : الغفلةُ في تطبيق بعض السنن التي تحقق البركة عند فعلها كالاجتماع على الطعام والتسمية عليه ، ولعق الأصابع بعد الفراغ من الأكل فقد روى أبو داود في سننه وصححه الألباني من حديث وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ، قَالَ: فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ، قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ )) وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ ؛ فَإِنَّهُ لا يَدْرِي فِي أَيَّتِهِنَّ الْبَرَكَةُ)) رواه مسلم
ومن السنن أيضا:استخارةُ المولى جل وعلا في الأمور كلِّها ، مع الإيمان بأنّ ما يختاره الله لعبده خيرٌ مما يختاره هو لنفسه في العاجل والآجل؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه عليها يعلمها أصحابَه كما يعلمهم السورةَ من القرآن، ويقول: ((إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ لِيَقُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ،وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ،فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ،وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ،وَأَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ،اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشَي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فاقْدرهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ ... الحديث )) رواه البخاري .
أسأل الله أن يبارك لنا جميعًا في أنفسنا وفي أعمارنا وفي أوقاتنا وفي أعمالنا وفي زوجاتنا وفي أبائنا وفي أولادنا وفي أمهاتنا، وأن يبارك لنا في كل ما أعطانا،هذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا – رَحِمَنِي اللهُ وَإِيّاكُم – على مَنْ أَمَرَ اللهُ باِلصّلاةِ والسّلامِ عَلَيْهِ ، فَقَال :} إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا{ وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ صَلّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلّى الله ُعَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا )) [ رواه مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه ]اللّهم صَلّي وَسَلّم على عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحمّد ، وعلى آلِه وَصَحْبهِ أَجْمَعِينَ ، وارضَ اللّهُمَّ عن الخلفاء الراشدينَ : أبي بكرٍ وعُمَرَ وعُثمانَ وَعَلي ، وعن بقيةِ الْعَشَرَةِ المبشرينَ بالجنة ، وعن صحابة رسولِكَ أجْمَعينَ ، وعَنِ التابعينَ وتابعيـهم بإحسانٍ إلى يومِ الدِّين ، وعنّا مَعَهُم بِرحمتـكَ يا أرْحم الراحمين اللهم أعِزّ الإسلامَ وانْصر المسلمين ، وأذِلّ الشّركَ والْمُشْرِكينَ ، وَدَمِّرْ أعداءَك أعداءَ الدّين .اللهم آمنّا في أوطانِنا ، وأَصْلح أئمتَنا وولاةَ أُمُورِنا وأجْعَلْ وِلايَتَنا يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ عباد الله : (( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) فاذكرو الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر اللهأكبر والله يعلم ما تصنعون .
المفضلات