بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، ومنَّ علينا ببعثةِ خيرِ الأنام، أحمده تعالى على نعمِه العِظام، وأشكره على آلائِه الجسام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهَد أنّ نبيّنا محمَّدًا عبده ورسوله القدوة الإمام، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح للأمّة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الناس /
اتقوا اللهَ حَقَّ التّقوى، فتقوَى الله سَبيلُ الهدَى، والإعراضُ عنها طريقُ الشّقا)) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون))
عباد الله / يقول الله تعالى ((خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ )) ويقول ((وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً)) فالإنسان بطبيعته عَجول، والنفسُ الإنسانية بطبيعتها عجلة، وهذه الصفة وهذه الغريزة جعلها الله سبْحانه وتعالى فيها لحكمة عظيمة لايدركها الكثيرون من الناس ،
ولو أن الناس لم يمنحهم الله تبارك وتعالى العقلَ والحلم والأناة، لأكلوا الثمار قبل أن تنضج، ولربما أهلكهم استعجالُهم ، فَطَبْعُ الإنسان باعتباره إنساناً أياً كان مؤمناً أو كافراً العجل ((خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَل )) فهذا يوضع في الاعتبار بالنسبة لنا المتمسكين بشرعه ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
وإذا تأملنا حال الرسل مع أممهم نجد الاستعجالَ يظهر جلياً واضحاً ؛ فالرسل يدعونهم إلى الله وتوحيده ويخوفونهم من عذاب الله وعقابه وينذرونهم عاقبةَ المعاصي، والظلمَ، والجور، والفساد، وفي المقابل نجدُ كثيراً منهم يستعجلون ماسوف يحل بهم من العذاب كما قال تعالى (( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ))
ولكن حلمَ الله وإمهالَه لا إهماله لهم ، والذي قال (( أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ * أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)) نعم عباد الله مهما أمهلهم الله وأمدّلهم بالنعم وجعلهم يتقلبون بالبلاد فسوف يأخذهم أخذ عزيز مقتدر((أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ))
فإذا أتى عذابُ الله ذهبت تلك النعم، وتلك اللذاتُ والشهوات فالله يقول (( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ)) ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح (( يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ: لَهُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ )) أخرجه أحمد من حديث أنس .
وكذلك ياعباد الله إمهالُ الله للظالم الذي بلغ مابلغ في الظلم والتجرئِ على الله فإذا أخذه لم يُفلته؛ ولذلك يضرب الله المثلَ بالأمم التي سبقت من قبلنا التي ظلمت وتنعمت وعصت ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)) فالكفارُ وأعداءُ السنة والظلمة يرون أنَّ عذابَ الدنيا وعذابَ الآخرة الأشد بعيدٌ عليهم كما قال تعالى ((إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً*وَنَرَاهُ قَرِيباً )) وفي المقابل يرى المؤمنون استبطاءَ النصرِ من الله تعالى، وهو القائل لهم (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) فهو قريبٌ قريب لكنهم يستعجلون.
ولنا ياعباد الله مع قصة سُراقةَ بن مالك الذي منَّى نفسه بوعود كفار قريش له وبالمئة ناقة، وتبع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبعد أن حدثت الآية العظيمة، وساخت قوائم فرسه، يقول له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((أبشر بسواريْ كسرى، يا سراقةَ أَمِنْ أَجْلِ الدُّنيا تَأْتِي))
فوعده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء يَعُدُّهُ المستعجلون ضرباً من الخيال بسواري كسرى، من كان يطمعُ من العرب أن يذكرَ كلمةَ كسرى؟! وكسرى أين هو؟!شيءٌ فوق الخيال! وهذا الأعرابي يُوعَد به ،وممن يُوعَد به؟يوعد به من رجل خرج خائفاً يترقب لينجوَ بنفسه صلواتُ الله وسلامُه عليه، ومعه الصديق ، خرجوا خشية أن يقتلَهم الذين كفروا أو يقبضوا عليهم ،ولسانُ حالِ سراقة يقول أنت الآن تريدني أن أرجع، حتى لا أقبض عليك، وحتى لا أدل قريشاً عليك، ومع ذلك تعدني بسواري كسرى!
وماهي إلا أيام حتى لبس سراقة سواري كسرى. الله أكبر!
فضعفُ الإيمان، وضعف الثقة بالله، والإقرار والتصديق بما وعد به ووعد به رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل الكثيرين من المسلمين اليوم يركنون إلى الأسباب المادية فقط .
فالكنوز والحضارات التي تبنى، والمليارات التي يملكها الكفارُ والظلمة سوف تنفق في سبيل الله! إن صدقنا مع الله ،ويكون الأمر عكس ما أمّلُوا، جَمَعُوها ليقاوموا بها الدينَ والإسلام، فالله عز وجل يجعلها غنيمةً للإسلام والمسلمين ليستعينوا بها على الجهاد في سبيل الله ونشر الإسلام والسنة في أرجاء العالم قال تعالى ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين))
نعم تلك سُنّةُ الله بعد اليأس من كلِّ أسبابِه الظاهرة التي يتعلق بها الناس ،يجيء النصر من عند الله فينجو الذين يستحقون النجاة ، ينجون من الهلاك الذي يأخذ المكذبين ،وينجون من البطش والعسف الذي يسلطه عليهم المتجبرون،ويحل بأس الله بالمجرمين ، مدمراً ماحقاً لا يقفون له ،ولا يصده عنهم وليٌ ولا نصير.
بارَك الله لي وَلكُم في القرآنِ العَظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكر الحَكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ لي ولَكم ولجميعِ المسلِمين من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله علَى إحسانِه، والشّكرُ له علَى توفيقه وامتِنانِه، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهَد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُه ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحَابه.
عباد الله / وممَّا يجدر التذكيرُ به وإعادتُه والتأكيدُ عليه خصوصًا في الأزمات والفتن الالتزامُ بالمنهج الشّرعيّ والصبر والمصابرة، ولزومُ جماعة المسلمين، ونبذُ الفرقة والخلاف، والبعدُ عن الاستعجال في المواقف، والمحافظةُ على أمنِ بلاد المسلمين ووَحدتها، وأن لا يكونَ المسلمُ مِعوَلَ هدمٍ لإيقاع الفتنة في بلادِهِ أو بلادِ المسلمين من حيث يشعُر أو لا يشعر، فإنَّ مصلحةَ العدوِّ المتربِّص أن يرى الفتنَ في بلاد المسلمين قائمة، ((وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلأمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)) فعليكم ياعباد الله، بلزوم التمسّكِ بشرعه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبالتضرّع إلى اللهِ ،وسؤاله ،ودعاءه ،ورجاءه ((وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ٱلْمُحْسِنِينَ))
ألا وصلوا وسلموا على من أمرَكم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقالَ في محكمِ التّنزيل: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا))
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على نبيّنا محمد، وارضَ اللّهمَّ عن خلفائهِ الراشدين...
المفضلات