حاكمٌ يمتطي تنين ...صناعة التضليل
ان التصور المتخيل للسلطة في مساحتها وقدراتها واسع بل قد يكون لا متناهي لما بيد الدولة من قوه ونفوذ وهي دائما ما تكون على شكل علاقة آمرية بين حاكم وبين محكوم لكن ورغم كل ذلك وعند التمعن في حقيقة هذه القوة أو (السلطة) سنجد أنها في النهاية تتقازم وتضمحل لتنتهي وتنحصر في أيدي أناس معدودون وفئة قليلة – هذه الفئة لاشك ضعيفة إذا ما قيست سلطتها وقوتها بالمتسلط عليه من الافراد أو المحكومين – فدائما الحقيقة التي لاتتضح إلا مؤخراً وبعد فوات (جميع الفرص) أن أي سلطة مهما بلغت قوتها وعنفوانها وجبروتها هي في الحقيقة أقل قوة ممن تسلطت عليه، وبهذا المعنى يصبح الحديث عن كيفية (الاستبداد والتسلط) التي يمارسها الأضعف علي الأقوى علاقة محيرة!
ولقد انتبه المفكر الفرنسي اتين دي لابويسيه قبل 500 عام من الآن لهذه العلاقة المحيرة وحاول أن يناقشها في كتابة (العبودية المختارة) وقد إنتقيت بعض عباراته التي جاء فيها .
'فأما الآن فـلست أبغى إلا أن أفهم كيف أمكن هذا العدد من الناس , من البلدان , من المدن , من الأمم أن يحتملوا أحيانا طاغيا واحدا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه , ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته. إن ضعفنا نحن البشر كثيرا ما يفرض علينا طاعة القوة ونحن محتاجون إلى وضع الرجاء فى الأرجاء ما دمنا لا نملك دائما أن نكون الأقوى'
ولكي نفسر هذه العلاقة المحيرة والظاهرة الإنسانية الغريبة فلابد ان نفهم أن خضوع الأفراد والأمم للاستبداد هو علاقة تبدأ وتنتهي عند قدرة المستبد أو الطاغية علي التحكم في التصور والعقل الجمعي للمحكومين ولذلك لابد أن يلجأ المستبد أو الطاغية للسيطرة على هذا العقل الجمعي وذلك بطريقتين (إما التخويف وإما التضليل)
وكلاهما ينطوي على درجة من الإيهام فتخويف الاقوى وهو (المجتمع) من الأضعف وهو المستبد ، يتطلب تغييب حقيقة قوة المستبد ، وتصويرها على أنها قوة لامتناهية لاتقهر، أما عملية التضليل فإنها هي الأخرى تمتاز بتعقيداتها وتشابكاتها فعلي الرغم من من بساطة اصلها ذلك انها فالواقع لا تخرج عن كونها دعوة للمستبد به (المجتمع ) لقبول الواقع واعتباره افضل من غيره لاسباب متعدده و متناقضة ولكنها تزين واقع الاستبداد.
وبهذا يتضح أن دور الاستبداد الفاعل يكمن في حيز فعل السلطة في عقل الافراد ، وكلما توسع هذا الحيز زادت قدرة الاستبداد علي تزين الواقع وتقبيح كل نقد او تذمر من قبل المحكومين ، ليظل التضليل بذاته أقوى أسلحة السلطة- وتظل عقول الأفراد المحكومين هي اكبر غنائم السلطة لترسيخ معاني استبدادها وتكريسها ، بل حين تحكم السلطة سيطرتها على العقل الجمعي للمجتمع (بهذا التضليل) نجدها تجند كل القوى الفاعلة والمؤثرة في عقول أفراد المجتمع لصالحها – سواء كانت هذه القوى الفاعلة مفكرين أورجال دين أوفنانين أوشعراء - بل وكل من يمتلك سلطة علي عقل الفرد تحاول السلطة كسبه واستخدامه لتأكيد وزيادة مساحة التأثير في عقول المحكومين!
لذا تجد أغلب السجناء السياسين ليسوا ممن ياخذ بالحراك المسلح أو يثور عسكرياً، بل هم في الغالب من يحاولون حماية عقولهم وفكرهم من جبروت وتضليل هذه السلطة ولذلك فهم دائماً ما يعملون جاهدين لتصحيح هذه الأوضاع بالكلمة ونشر الفكر وتأمين الحرية ومعانيها للمجتمع بعيداً عن السلطة واستبدادها ، لذا تبادر السلطة خوفاً للقضاء علي هذه الحرية والأفكار بالتضييق عليهم أو سجنهم!
وهذا ما قد يجعلنا نتساءل كذلك فبعد الربيع العربي وعصر الحريه ما الذي تغير؟
الحقيقة أنه لا شيئ ملموس تغير ' سوا أمر واحد' و هو تقلص حيز فعل السلطة في عقول الافراد وسيطرتها عليهم ، فبدأت سوءات السلطة تظهر وتتكشف يوماً بعد يوم .
لذلك فكل سلطة اليوم لا تبحث عن مخرج منطقي وواضح بتفعيل معنى العدل والمساواة والحرية الحقيقية فلن يسعفها (كما كان في الماضي) حيلة التضليل ، فعدد من كانت السلطة تتحكم في عقولهم أصبح اليوم في تناقص مستمر وابتعاد وتحرر .
فهل تقتنص السلطة الفرصة وتستفيد من رغبة هذه العقول في التغيير الحقيقي للأفضل وهل تقتنع السلطة بضرورة الكف عن الاستمرار في صناعه ( التخويف و التضليل ) ان الشعب كتنين قد توهمه
انه فراشه لتقوده ولكن حين يغضب ستواجه غضب التنين!.
د. عبدالهادي العجمي
استاذ التاريخ بجامعة الكويت.
المفضلات