[align=justify]كما أن لكل زمان دولة ورجال فإن لكل زمان أيضاً "حرامية ولصوص" ، يتغيرون بتغير الزمان ، ويتطورون مع تطوره ، يواكبون عصر "الحرمنة" غير متناسين في الوقت نفسه أنّ "من فات قديمه تاه" فلا بأس بأن يستعينوا بحيل الماضي لسرقة الكحل من عين المستقبل ، لا يحتاجون إلى مزيد تعليم على السرقة فالمال "السايب" كثير ، ولأنهم لم يجدوا من ينهاهم عن السرقة فهم لم يكونوا بحاجة إلى وجود من يأمرهم بها ، يسري حب السرقة في دمهم ، لا يتلذذون إلا بالحرام ، ويتفاخرون في تكبير أجسادهم من أكل السحت ، وما علموا أن النار أولى بها .
لم يكن جدي كاذباً حين حدثني عن "الحرامية" الذين يسطون على "العرب" بليل وهم يخفون وجوههم ويتجنبون الليالي ذات "البدر" وواحدهم يردد "ساري وأخاف القمر يظهر عليّا" ، فجدي كان يصف حرامية زمانه ، وهو لم يكن يعلم بأنه سيأتي على الناس زمان يلبس فيه "الحرامي" أفخم البشوت وأجملها ، ويركب أفضل السيارات ، ويجلس في "صدر" المجلس ، ولا يمنع أن يجلس تحت "قبة" المجلس أيضاً ، ويتبعه "حرامية" ناشئون في رحاب السرقة ، شعارهم "بوقوا" ونحن من خلفكم ، أنتم "السارقون" وإنا إن شاء الله بكم لاحقون .
ذهب الماضي بخيره وشره ، وكما أن الجميع يردد "راحوا الطيبين" فأنا أردد أيضاً "راحوا الحرامية الطيبين" ، فحرامية ذاك الزمان أكثر شرفاً من حرامية زماننا ، فأحدهم كان يسرق "ليأكل" ، بينما "حرامي" اليوم يسرق "ليقتل" كل أمل بقيام دولة متطورة متقدمة ينعم فيها الجميع برفاهية ورغد عيش ، ويريد أن يستأثر بخيرات البلد بحعلها له هو دون غيره ، فهو إن سرق لا يبقي ولا يذر ، وكأنه يقول للأموال والمناقصات "لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا" !
لا أدري كيف يصلح الحال في بلد يكرم فيه السارق ويجلس في الصفوف الأمامية ويعلو من أجله التصفيق والهتاف ، وينشد له الحضور "احترامي للحرامي" ، بالتأكيد بلد هذا شأنه لا يصلح حاله أبداً ، وكأني بالشاعر أراد أن يقول :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سراة إذا "سُرّاقهم" سادوا
لكن لعله لم يدر في خلده أن السارق قد يسوّد يوماً ما ، لذلك تجده استساغ فكرة أن يسود الجاهل قوماً لكنه ربما لم يستسغ أن يسود السارق قوماً ، أقول ربما .
يتنوع اللصوص ولا شك ، وتتنوع السرقات ولا شكّ أيضاً ، وتتنوع الضحايا ولا شك أيضاً وأيضاً ، ولكن أخس أنواع اللصوص وأحقرهم هم أولئك الذين يسرقون من المرء سنوات عمره ، يعطونه الوعود الزائفة على طبق من ذهب ، ويسرقون منه طفولته وشبابه ولا يرحمونه حال شيخوخته ، يصنعون منه صديقاً لحرّ الشمس رغماً عنه ، ويجعلون منه عاشقاً للغبار رغم أنفه ، يشغلونه بطلب قوت يومه ، حتى لا ينشغل بطلب حقّه .
وأخس أنواع السرقة هي سرقة الأحلام من مخيلة أصحابها ، وسرقة كل نظرة مستقبلية صاحبتها ابتسامة بغدٍ أفضل ، وسرقة كل أمل لاح في عين صاحبه حتى يدبّ اليأس فيه ، وينزرع في قلبه القنوط ، فيصبح باطن الأرض أحب إليه من ظاهرها ، ليمشي على غير هدف وهو يردد "ألا موتٌ يباع فأشتريه" ؟! ، وكيف لا وقد أصبح في عين نفسه من سقط المتاع ، يلوح أمام عينيه قول قطري بن الفجاءة :
وما للمرء خير في حياةٍ
إذا ما عُدّ من سقط المتاعِ
وإن أبأس الضحايا هم أولئك الذين لا حول لهم ولا قوة ، ولا يملكون إلا الصبر والدعاء ، أعمارهم والشيب في رؤوسهم كفرسي رهان لا تدري أيهما أسبق ، يدّخرون فرحهم ليوم قد لا يأتي ولكنّهم يمنّون النفس بقدومه ، لا يحزنهم وجود أربعين حرامي يعيثون في حياتهم فساداً ، بقدر ما يحزنهم عدم وجود "علي بابا" واحد يعيد إليهم حقوقهم ، ويخلّصهم ويخلص البلد من شرّ "الحرامية" .[/align]
المفضلات