لفرط تغلغل الولايات المتحدة الأمريكية في الدورة الدموية لنظمنا الأمنية، صرنا في الخليج نشعر بأعراض الهبوط كلما تحركت أرتال الألفاظ في البنتاغون، أو حين تتدحرج جلاميد التحذيرات من راند “RAND” ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” CSIS”، ومن بقية مراكز الفكر الاستراتيجي التي تستعين بها المؤسسة العسكرية الأمريكية. وقد تعدت واشنطن حيز تجربة الأسلحة الجديدة في بيئتنا الإقليمية سيئة الطباع، إلى حيز تجربة العقائد القتالية والاستراتيجيات، بل والفكر العسكري برمته. فقد حظيت حروبنا بأولوية تجربة الأسلحة الأمريكية الجديدة منذ نهاية الحرب الكونية الثانية، ابتداء بطائرة الحرية “إف-5، F-5” مروراً بالصواريخ الجوالة، والأباتشي، وباتريوت، وجيب الهمر، ووجبة الجنود الجاهزة، حتى قذائف اليورانيوم المستنزف الخارقة للدروع، وكأنه لم يبق إلا تجربة السلاح النووي!
أما العقائد والاستراتيجيات فقد طبق علينا “مبدأ أيزنهاور” “Eisenhower Doctrine”، وعقيدة الدعامتين ثم عقيدة كارتر، والتدخل السريع لاحتلال حقول برقان والغوار، ثم الصدمة والترويع 2003، وأخيراً استراتيجية زنبق الماء 2012، حتى أصبحت الثقافة العسكرية أحد الإدراكات المبكرة لأولادنا الصغار.
ومنذ زمن والفكر العسكري الأمريكي مسكون بحلم “الجيش الذكي الصغير”، الذي نادى به منذ نصف قرن نتيجة الثورات المتكررة في الشؤون العسكرية كل من ليدل هارت، ديجول، وحتى كوردسمان. ونتيجة طول إقامتها بيننا تأثرت واشنطن بالبلاغة العربية التي نستلها بدلاً من أن نستل الصوارم لقطع الرؤوس، فأصبح لديها “السفينة الأم” “Mother ship” أو “أم السفن” اتساقاً مع “أم المعارك” للرئيس العراقي السابق صدام حسين حين دافع عن بغداد، أو “أم المهالك” عند الرئيس السوري بشار الأسد في دفاعه العبثي عن دمشق. وقد دفعت استراتيجية الرئيس الأمريكي باراك أوباما الدفاعية وخفض الموازنة مع الحفاظ على التفوّق النّوعي في الوسائل والقدرات لظهور جزء من “الجيش الذكي الصغير” عبر ظهور “السفينة الأم”، لتتولّى إدارة العمليات العسكرية بالخليج كقاعدة عائمة لاستمرار الدور الأمريكي في ضبط توازن المنطقة، وللحفاظ على الدور القيادي لها، ولمواجهة انتشار أسلحة الدمار الشامل.
لقد خرجت فكرة “السفينة الأم” كأحد تطبيقات الجيش الذكي الصغير، وألقت بمراسيها في الخليج في 10 يوليو 2012. وحين تحدثت عنها وسائل الإعلام أول مرة في يناير الماضي عرفنا أن السفينة “USS Ponce” التي كانت على وشك أن يتم تقطيعها بعد خدمة بدأت في 1966 كسفينة إنزال ستكون منصّة عائمة متحرّكة. حيث إن المهام الملقاة على عاتقها تتضمن:
1- مرافقة الزوارق القتالية السريعة، وإيواء 12 قارباً.
2- إسناد عمليات المروحيات الهجومية حيث إن بها مساحة لحمل 4 هيلكوبترات. وكمنصّة للطائرات دون طيار.
3- سوف تستعمل كقاعدة لوحدات أسود البحر”US Navy Seals” من قوات الصفوة.
4- دعم عمليات رصد الألغام وإزالتها.
5- إزالة الأجسام الثقيلة الغارقة في مضيق هرمز برافعاتها العملاقة.
6- التصنّت والاستطلاع والمراقبة عبر 4 غرف مجهّزة بأحدث الأجهزة.
7- استخدامها كمحطّة شحن وتزوّد بالوقود .


لقد عاد الفكر العسكري الأمريكي إلى أصوله الأولى باتباع نظرية “الفرد ماهان” “Mahan” القائلة بأن “المجد للقوة البحرية” لكن لماذا دفع البنتاغون بفكرة السفينة الأم إلى النور بهذه السرعة! ولماذا طلب من شركة “جنرال داينمكس” “General Dynamics” صناعة سفينة أخرى مماثلة، رغم وجود الأسطول الأمريكي الخامس أكثر الأساطيل الأمريكية الاستراتيجية أهمية في الخليج منذ عقود؟
لاشك أن المحرك الإيراني والعقوبات عليه تأتي على رأس تلك الأسباب، وهذه السفينة تمنح واشنطن القدرة على شن هجمات خاطفة، دون الحاجة لطلب إذن من دولة أخرى. كما إن هناك مهمة وقف أعمال التهريب والقرصنة، وضرورة كسر تنظيم القاعدة باليمن. بالإضافة إلى حرص واشنطن على إبقاء يدها قوية بما لا يسمح بهامش مناورة لقوى إقليمية أو بتمدد استراتيجي لمنافسين دوليين محتملين على دفّة القيادة. كعودة القوة البحرية الروسية التي ظهر ما يشير لعزمها تقوية بحريتها. فهل مقدم “السفينة الأم” “Mother ship” وهي مجرد سفينة واحدة سيشعرنا بالأمن الذي فشلت واشنطن في خلقه عبر قواعدها التي ترصع الساحل الغربي للخليج من الكويت إلى عمان! وعبر كل ما جربته من أسلحة واستراتيجيات وعقائد قتالية! أم هو مظهر من مظاهر ضعف الولايات المتحدة وتحاول تغطيته بالجيش الذكي الصغير كما قال مستشار الأمن القومى الأسبق زبيجينو بريجينسكي “Z. Brzezinski”، والذي سنكون ضحيته بدون شك حين تبدأ نتائجه الجيوسياسية بالظهور ابتداءً من عام 2025! خصوصاً أن التهرب من الالتزامات العسكرية الكبيرة يشابه ما حل بالاتحاد السوفيتي قبيل سقوطه. حيث لم يستطع أن يجعل التزاماته العسكرية تسير متوازية مع تمويل القطاعات التنموية الأخرى، فاختار الرئيس الروسي السابق ميخائيل غورباتشوف تفكيك الوحش بدل أن يراه يموت جوعا .

د.ظافر محمد العجمي –المدير التنفيذي لمجموعة مراقبة الخليج .