الحمد لله وكفى , والصلاة والسلام على الرسول المصطفى , أما بعد :
فلابد لكل صائم أن يستحضر نعمة الله عليه بإتمام الصيام والقيام , والتوفيق لهذا الختام , منة جليلة تعيشها أيها الصائم , ونعمة عظيمة قد وُفقت لها أيها القائم , لقد فزت بإذن الرحيم بمغفرة الذنوب , وربحت بفضل الكريم ثواب خير الشهور , تذكر كل فضل لرمضان جاءت به النصوص , واستحضر كل عطاء تفضل الله به على أهل هذه الطاعة . فاحمد الله اللطيف , واسأله أن تشملك تلك الرحمات , وأن تُوهب لك الأُعطيات .
ومن تمام شكرك لربك أن تجعل من نهاية شهرك حياة جديدة ملئها الطاعة، ومعاملـة صادقة صالحة مع الله ، واستأنف عملك فقد كُفيت ما مضى ولكن الشأن فيما بقي .
ليكن ذلك الموسم بداية للانطلاقة الكبرى نحو المعالي , وطلب رضى الكريم المتعالي .
لتكن تلك الطاعات زاد مباركاً لك , تتحول به حياتك , من المعصية إلى الطاعة , ومن الشقاوة إلى السعادة , ومن العجز إلى العزيمة على الرشد .
واعلم أن للطاعة أثرها البيّن على النفوس , وسلطانها القوي على القلوب , فهي تدفعها للخير دفعاً , وتكفها عن الشر كفاً , إذا أداها المرء كما أمر الله تعالى , كم من إنسان استقام بعد رمضان , وكم تبدلت أحوال خلق من آثار الصيام .
استأنف عملك أيها الصائم فالطاعة لا انقضاء لها ولا انتهاء إلا بالموت
والمؤمن يرتقي بالطاعة ,ويرى أنه مقصِّر في جنب الله تعالى مهما تقرّب إليه-وأي طاعة تُوفي بحق الكريم سبحانه - وهو المُنعم المتفضل أولاً وآخرا , فهو المُوفِق للطاعة ابتداءً والمتفضل بالقبول انتهاءً .
تذكر فضل كل طاعة عند انقطاع عملك , وانتهاء أجلك , واعلم أن طول عمر المؤمن لا يزيده إلا خيرا .
كن على يقين أن كل طاعة ترقيك وترفعك درجات عند مولاك , فكم من طاعة بعد رمضان كانت سببا في نزول العبد منازل الأبرار المتقين , وكم نعرف من أشخاص كانت هدايتهم بعد رمضان , فهي عطاء من الله – وعطائه لا يُحد -
بل اسموا بهمتك بعد رمضان للانتقال من مرحلة العمل القاصر على النفس ,إلى أن تكون منار هدى للناس , وسببا في دلالة غيرك إلى طريق الرشاد .
استأنف عملك أيها الصائم , واحذر بطلانه
ففي التنزيل يقول الله تعالى لصحابة نبيه عليه الصلاة والسلام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (الحجرات:2) , تخيل مجرد رفع الصوت على النبي عليه الصلاة مُحبط لأعمال عظيمة من رجال عٍظام \"أهل جهاد ونفقة وهجرة وتضحيات \" تُحبطها معصية رفع صوت على النبي الكريم عليه الصلاة والسلام , فكيف بمن عاد للمعاصي الكبار , وتلطخ بالمحرمات التي تطهر منها في رمضان ؟
فحافظ على حسناتك كما تحافظ على أموالكم , وأغلى ما تملك من دنياك, بل وأشد من ذلك , فالحسرة كل الحسرة , في ضياع العمل الصالح بعد بذل الجهد , والتعب فيه .
استأنف عملك أيها الصائم, فقد وفقت للطاعة وزالت عنك عقدة عدم القدرة عليها
كم تعذر متعذر عن العمل الصالح , وزين له شيطانه أنه غير قادر عليه , ولا يمكن له أن يكون من أهله , فجاء رمضان ليُزيل عنه هذا اللبس , ويرفع عنه تلك الغشاوة , ليُصبح في رمضان عبداً صالحاً , يتقرب إلى الله بالطاعات , يصوم مع الصائمين , ويقوم مع القائمين , بل ويعتكف وينصرف للطاعة انصرافاً تاماً وإن كانت لا تظهر عليه آثار الاستقامة , ليزداد المرء يقيناً أن شعب الإيمان في القلب كبيرة في نفوس المسلمين .
تُرى تلك الصور ليقال للشيطان اندحر , ولعباد الرحمن افرحوا بهذه الصور , وخذوا بأيدي إخوانكم إلى كل خير .
واعلم أن الله لم يكلفنا فوق طاقتنا , بل الطاعات سهلة وميسرة لمن طلبها بصدق , فكن من أهلها .
استأنف عملك أيها الصائم, واعلم أنك كلما داومت عليه هان عليك
يشكو كثير من الناس من صعوبة العمل الصالح عليهم , ولا نُنكر المشقة في بعضه , فالجنة حُفت بالمكاره , ومع ذا فإن العبد إذا داوم عليه هان عليه , والواقع خير شاهد , فإنك تجد من نشأ على الطاعة صارت ميسرة عليه , وقد وُفقت للطاعات هذه الأيام ,فاجعل من هذا درساً لك , على قدرتك عليها , وتأهلك أن تكون من أهلها , ولا تكن أظلم الناس لنفسك , بحرمانها من الانتساب لأهل التقى والصلاح .
استأنف عملك أيها الصائم , وعالج كل نقص بالتوبة والاستغفار
فأنت لا تعدوا آدمياً ضعيفاً من طبعك الخطأ والتقصير , ومهما حاولت في تكميل ذاتك يبقى التقصير من طبعك , وليس هذا تهويناً للوقوع في المعصية , ولكنه بياناً للحال , وإيضاحاً للعلاج ,فعلاج تقصيرك هو الاستغفار الدائم في كل وقت وآن .
تأمل في وصف أهل الجنة , واستغفارهم الدائم , وعدم إصرارهم على المحرمات يقول الله تعالى (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ*الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ* وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ*أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (آل عمران:133 -136)
ولتعلم أخي القارئ أن أهل الإسلام يتفاوتون في طاعاتهم وقرباتهم , وفي بعدهم عن الذنوب والمعاصي , وليس حال من ابتعد عن المعاصي , كحال من تلبس فيها , ولكن يُرجى لمن داوم على الطاعات أن يترقى في منازل الصلاح حتى يصل إلى منازل عالية رفيعة بطاعاته وقرباته , بعد فضل الله عليه .
استأنف عملك أيها الصائم, واثبت عليه فإنما الأعمال بالخواتيم
وتذكر أنه كلما داومت على الطاعة , وُفقت لحسن الختام , ومن رحمة الله أن من خُتم له بعمل صالح كان ذلك دلالة على حُسن خاتمته , عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله) قالوا: كيف يستعمله؟ قال: (يوفقه لعمل صالح قبل موته) رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه الحاكم في المستدرك
ومن مات على عمل صالح كان من أهل الجنة ففي الحديث \" (من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له بها دخل الجنة، ومن تصدق بصدقة ختم له بها دخل الجنة) رواه الإمام أحمد وغيره. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة , فاستدم على الطاعة , وأسأل ربك الثبات عليها , وتيقن أنه كريم جواد .
عادل بن عبد العزيز المحلاوي
المفضلات