بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي وفق من شاء من عباده لمكارم الأخلاق، وهداهم لما فيه فلاحهم وسعادتهم في الدنيا، ويوم التلاق، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكريم الخلاق، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل الخلق على الإطلاق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.
أيها الناس / أوصيكم ونفسي بتقوى الله فهي وصية الله للأولين والآخرين ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾
وخذ من تقى الرحمن أعظم جنة ليوم به تبدو عياناً جهنم
ويأتي إله العـــالمين لوعده فيفصل ما بين العباد ويحكمُ
عباد الله / رسالة خاصة لفئة من الناس في هذا المجتمع لانريد من ذلك فيها دينارا ًولادرهما ً, وإنما نريد الخير والسعادة لمجتمعنا الإسلامي في الدنيا ، والأجر والمثوبة من الله في الآخرة .
إنها رسالة خاصة لآبائنا كبار السن ممن نخالطهم في المساجد والمجالس , وممن نصادفهم بالطرقات والأسواق ,وممن نراهم في دور الرعاية والمستشفيات.
نقول لهم / معاشر الكبار: الله سبحانه وتعالى خلقنا وخلق الخلق بقدرته,وصرفنا وصرفهم في هذا الوجود والكون بعلمه وحكمته, وأسبغ علينا وعليهم الآلاء والنعماء بفضله وواسع رحمته, خلق الإنسان ضعيفًا خفيفًا ثم أمده بالصحة والعافية، فكان به حليمًا رحيمًا لطيفًا، ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾
معاشر الكبار / كأني بكم وأنتم تُعيدون شريط الذكريات ؛ ذكرياتِ الشباب وقوته ،تتذكرون أجمل الأيام وأحلى الذكريات مع الأصحاب والأحباب , وكيف مرت السنون والأعوام، وتلاحق الأيام تلو الأيام، حتى صرتم إلى المشيب والكبر ، ووقفتم عند آخر هذه الحياة وقد ضعفت أبدانكم وانتابتها الأسقام والآلام ، كأني بكم تنظرون إليها وكأنها نسجٌ من الخيال أو ضربٌ من الأحلام , ولسانُ حالِكم يقول كما قال الأول:
بكيتُ على الشباب بدَمْعِ عينيِ
فلم يغني البكاء ولا النحيبُ
فيا أسفا أسِفتُ على شبابٍ
نعاه الشيب والرأسُ الخضيبُ
عُرِيتُ من الشباب وكان غضاً
كما يَعْرَى من الورق القضيبُ
فيا ليت الشبابَ يعودُ يوماً
فَأُخبِرَه بما فعل المشيبُ
نقف اليوم – عباد الله - مع كبير السن الذي رق عظمه وكبر سنه،وشاب رأسه , وخارت قواه ، نقف اليوم مع كبير السن، و مع حقوقه التي طالما ضُيِّعت، ومشاعره وأحاسيسه التي طالما جُرحت، ومع آلامه وهمومه وغمومه وأحزانه التي كثرت وعظمت ! فأصبح اليوم غريبًا حتى بين أهلِه وأولاده، ثقيلاً حتى على أقربائه وأحفاده، لا يجالسه , ولا يؤانسه إلا النادر منهم , وَلِدَقَائِقَ معدودة نعم – عبادالله - إذا تكلم الكبير قاطعه الصبيان, وإذا أبدى رأيَه ومشورته سفهه الصغار قبل الكبار, فأصبحت حكمته وخبرته في الحياة إلى ضياع وخسران.
يمر عليه اليوم وكأنه عام ! قلبه مجروح منكسر, وعينه تذرف دمعاً غزيراً منهمراً. همه وشغله الشاغل انتظار دوره بعد أن رأى معظم أقرانه وجُلسائه قد فارقوا الحياة، وأصبح وحيدًا غريبًا ينتظر أمر الله عز وجل.
معاشر الكبار / إن لم يرحم ضعفكم الصغير والكبير فالله يرحم ضعفكم, ويجبر كسركم، ويعفوا عنكم,وهو القائل سبحانه وتعالى
﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾
وإن اعتزلكم الأولاد والأقارب والأصحاب ففي الله عوض عن الفائتين,وفيه أنس للمستوحشين .
لئن نسي الكثير فضلَكم فإن الله لا ينسى، ولئن جحد الكثير معروفكم فإن المعروف لا يَبْلى, ولئن طال العهد على ما قدمتموه من خيرات وتضحيات فإن الخير يدومُ ويبقى، والجزاء من ربِّ السموات العلى القائل جل وعلا ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾
معاشر الكبار / إنا لنعلم أنه قد تجعّدت جلدوكم، وثقلت أسماعكم، وضعفت أبصاركم ، وترهلت عضلاتكم ، وقلت حركاتكم ـ فأنتم ـ ومع ذلك ـ كبار في قلوبنا, وكبار في نفوسنا, وكبار في عيوننا, كبار بعظيم حسناتكم وفضلكم بعد الله علينا، أنتم الذين عَلّمتم وربيتم وبنيتم وقدمتم وضحيتم ! فمالكم منا إلا التوقير والتقدير والإجلال والدعاء ؟ فالله أمرنا بخفض جناح الذل لكم، وأمرنا بسؤاله الرحمة لكم , قال تعالى ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّياني صَغِيراً ﴾
ورسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخبرنا إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم .
[رواه أبو داود في سننه , وصححه الألباني , من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه]
معاشر الكبار / إذا كنتم تعانون من الآلام والأسقام والأمراض التي تجدونها بسبب كبر السن فالملائكة كتبت حسناتَها, والله عظّم أجورها, وستجدونها بين يدي الله, فالله أعلم كم كان لهذه الأسقام والآلام من حسنات ودرجات, اليوم تُزعجكم وتقلقكم وتُبكيكم وتقض مضاجعكم, ولكنها غدًا بين يدي الله تفرحكُم وتضحككُم, فاصبروا على البلاء، واحتسبوا عند الله جزيل الأجر والثناء، فإن الله لا يمنع عبده المؤمن حسن العطاء، ورسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : ((عجباً لأمر المؤمن، إن أمرَه كُلَّه خيرٌ وَلَيْسَ ذلك لأحَدٍ إلا للمؤمن : إنْ أصابتْهُ سراءُ شَكَرَ فكان خيرًا لهُ ، وإن أصابته ضراءُ صَبَرَ فكان خيرًا لهُ)).
[ رواه مسلم من حديث صهيب بنِ سنان ـ رضي الله عنه ]
فأحسنوا الظن بما تجدونه عند ربكم ، عظّم الله أجوركم , وأجزل في الآخرة ثوابكم.
معاشر الكبار / أنتم قدوة لأبنائكم وبناتكم وأهليكم, قدوة في مجتمعاتكم إذا جلست مع الأبناء والبنات، فإن كان الواحد منكم محافظًا على الخير والطاعات أحبوه وهابوه وأجلّوه وأكرموه, وإن وجدوه يسب الناس ويشتمهم وينتقصهم ويغتابهم أهانوه وأذلوه ثم سبوه وعابوه , وهكذا يجزى المحسن بالإحسان, والمسيئ بالخيبة والخسران.
معاشر الكبار/ أحسنوا الختام, وأقبلوا على الله جل جلاله بسلام واجعلوا أجل الأعمال هي مسك الختام.اللهم اختم لنا بخير, اللهم اختم لنا بخير, اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها, وخير أعمالنا خواتمها, وخير أيامنا يوم نلقاك, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديك برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم ارحم كبارنا, ووفق للخير صغارنا, وخذ بنواصينا لما يرضيك عنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله علَى إحسانِه، والشّكرُ له علَى توفيقه وامتِنانِه، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وَحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهَد أنّ نبيَّنا محمّدًا عبدُه ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأصحَابه.
عباد الله / يقول الله تعالى﴿أَوَلمَ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ﴾
فهذه - عبادالله - تذكرة من الله جل جلاله, وتنبيه منه سبحانه وتعالى رحمة بعباده بهذا النذير؛ حتى يُحسنوا خاتمتهم؛ فَيُحسن الله الختام لهم ، وإلا فلربما غفلوا وكانوا عن طاعته بعيدين, فرحمهم الله جل وعلا .
كان السلف الصالح رحمة الله عليهم إذا بلغ الرجل أربعين سنة لزم المساجد, وسأل الله العفو عما سلف وكان, وسأله الإحسان فيما بقي من الأزمان ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنْ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ﴾
فاتقوا الله تعالى واغتنموا شبابكم قبل هرمكم , وصحتكم قبل سقمكم ، وفراغكم قبل شغلكم .
وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة, فقد أمركم الله بذلك حيث يقول جل في علاه: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
المفضلات