[align=justify]أبشع شعور يمرّ على الإنسان ، هو شعوره بعدم الرغبة في الحياة ، وتمني وضع حدّ لمعاناته في هذه الحياة ، فهو في نظره لم يعد قادراً على تحمل المزيد من الطعنات والجراح ، ولا على مزيد من سياط الجلادين الذين يستمتعون بصوت صراخه في كل مرة يهوي بها السوط على ظهره ، حينها يشعر بأن مماته خير له من حياته ، وأن باطن الأرض خير له من ظاهرها ، ويصبح لسان حاله كقول القائل :
إذا أبصرت قبراً من بعيدٍ
وددت لو أنني مما يليه
لا تستغرب عزيزي القارئ ، ولا تشعر بأن حروفي السابقة محبطة ! ، فقد جاء في السنة "لا تقوم الساعة حتى يمرّ الرجل بقبر الرجل فيقول ياليتني كنت مكانك" ، ولكن السنة المطهرة جاءت بما يضع حدّا لهذا التمني بالنهي عنه وتغيير صيغة الدعاء وتعليقها بالخيرية التي لا يعلمها إلا الله وحده ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه ، فإن كان لا بد فاعلا فليقل : اللهمّ أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفّني إذا كانت الوفاة خيراً لي ) .
تُرى كم عدد الذين يعيشون بيننا اليوم و يقولون حين يمرّون على القبور ياليتنا كنّا مكانكم ؟! ، وكم عدد الذين إذا دخلوا المقابر تمنوا لو استطاعوا تبديل دعاء دخول المقبرة إلى "ليتنا كنّا السابقين" !
في عرف الفرسان من رعاة البقر ممن يتحلون بمروءة الخصومة بحسب أعرافهم وعاداتهم وتقاليدهم ، حين يجد خصمه يتعذب من ألم جراحه ، ويموت رويدا رويداً ، فإنه يعاجله برصاصة يطلقون عليها مسمى "رصاصة الرحمة" من وجهة نظرهم ، تخلصه من تلك الآلام وتضع حدا لعذابه الدنيوي وتأخذه في أقرب رحلة إلى غياهب الموت ليواجه مصيره ، ذاك هو عرف الفرسان لديهم ، وتلك هي عاداتهم في التعامل بشرف مع الخصوم فهم لا يتلذذون برؤيتهم يتعذبون حتى لو كانوا يمقتونهم أشد المقت .
في بلادنا ، عانى البدون الأمرين ، فمن وعود كاذبة ، إلى إهانات متكررة ، ومن لعب بمشاعرهم عبر وضعهم على لا ئحة الإنتظار على مدى خمسة عقود ، إلى رقص على جراحاتهم عبر تخوينهم تارة والطعن في أنسابهم تارة أخرى ، حتى أصبحوا يتمنون ممن فعل بهم الأفاعيل أن يكون لديه من المروءة وشرف الخصومة ما يمتلكه رعاة البقر ، حتى يطلق عليهم رصاصة رحمة تخلصهم من عذابهم ، بدلا من أن يتلذذ برؤيتهم يقاسون العذاب ، ويضع حدّا لقصة انتظارهم الحزينة ، ففي كثير من الأحيان يكون انتظار العذاب عذاباً أشد وقعاً على النفس من العذاب نفسه ، فقد جاء في أهوال يوم القيامة أن الناس من هول ما رأوا قبل الحساب وفصل القضاء يأتون إلى الأنبياء واحدا واحدا يطلبونهم الشفاعة عند ربهم ليخلصهم من هذا العذاب ويقضي بينهم إما إلى جنة وإما إلى نار !
"افعلها وخلصني" قالها جسّاس بن مرة ، "افعلها وخلصنا" يقولها البدون اليوم لكل من يتسبب في مزيد من المتاعب في حقهم ، فألم الانتظار الذي رافقهم لمدة خمسة عقود جعل كل ما بعده هينا في عيونهم ، فاقضوا بينهم إما إلى جنتكم وإما إلى ناركم ، وأطلقوا عليهم رصاصة الرحمة ، وافعلوها وخلصوهم خلصكم الله من كل شرّ .[/align]
المفضلات