[GASIDA="type=center bkcolor=#993399 color=#CCFF66 width="100%" border="none" font="bold x-large Arial" bkimage="""][/GASIDA]
الخطبة الأولى - للقاسم 21-1-1433
الحمد لله ناصرِ الحقِّ ومُتَّبِعه، وداحِضِ الباطل ومُبتدِعه، أحمده والتوفيقُ للحمدِ من نِعَمِه، وأشكره والشكر كفيلٌ بالمزيدِ مِن فضلِه وكرمِه وقِسَمِه، وأستَغفره ممّا يُوجِبُ زوال نِعمه وحلولِ نِقَمه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تمَّت على العبادِ نعماؤه، وعظُمَت على الخلقِ آلاؤه، وأشهد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبده ورسوله، ترك أمته على المحجة البيضاء والطريقةِ الواضحة الغرَّاء، صلَّى الله عليهِ وعلى آلهِ وأصحابِه ما انزاحَ شكٌّ بيقين، وما قامَت على الحقِّ الحُجَجُ والبراهين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدّين
أمَّا بعد: فاتَّقوا الله -عبادَ الله- حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيّها المسلمون، لقَد منَّ الله على عبادِه بدينٍ مَتينٍ يُخاطِبُ العَقلَ والقَلبَ، ويُؤصِّلُ القواعِدَ والأحكامَ، شاملٌ للكلِّيات والجزئيَّات، والاعتقاداتِ والعبادات، والسّلوكِ والآدابِ، وقرَّر أصولَ التعاملِ مع البُسَطاء والعُظماء، وأهلِ البطالةِ والأثرياء، والفقراءِ والأغنياءِ، قال جل شأنُه: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38].
ولِكمالِه شَرَقَ الأعداءُ بتمسُّك أهل الإسلام به، قال سبحانه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: 109]، فيَسعَون إلى إقصاءِ أهله عنه: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8].
ومِن أعظمِ مَداخِل أهلِ الباطلِ على المسلمين زَعزَعةُ الأمن في بلدانهم، فإذا فقَدوه انقطَعَت السُّبُل، وتفرَّقَتِ الكلِمةُ، وحلَّ الفقرُ، وانتَشَرتِ الأسقامُ، وسُلِبَت الأموالُ والممتلَكات، وهُتِكَتِ الأعراضُ، وسُفِكَتِ الدماءُ، فيعمُّ الجهلُ والخوفُ، وينشغِلُ الناسُ عن دينِهم، ويظهَر أهلُ الريبِ والشّكّ وأربابُ البغيِ والإفساد.
وكلَّما ابتعدَ الناسُ عن زَمنِ النبوةِ ظهرَتِ الفتنُ والمِحَن، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن بين أيديكم فتنًا كقِطَع الليل المُظلِم، يُصبِحُ الرجلُ فيها مؤمِنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِحُ كافِرًا)) رواه أحمد.
والثباتُ في مُدلهِمَّاتِ الحوادثِ والأزمان عَزيز، ولا تظهَر فتنةٌ إلا وَيسقطُ فيها رِجال، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ [الحج: 1
وقد أمر النبيُّ أمتَه بالتعوُّذ من الفِتن قبل ظهورِها وعِند نزولها، فقال: ((تعوَّذوا بالله من الفِتَن ما ظهر منها وما بَطَن)) رواه مسلم.
ومِن دوائِها عدمُ الخوضِ فيها وتَركُ الأمرِ لأهلِه من الولاةِ والعلماءِ لعَرضِها على الكتابِ والسنّة، قال جل شأنه: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83].
والفتنةُ إذا أقبلَت عرفَها العُلَماءُ، فإذا أدبَرَت عرفَها العامّةُ ولكن بَعدَ الفَوات. والعلماءُ هم ورثةُ الأنبياء، ولا غِنَى للحاكِم والمحكوم عَنهم في السّرَّاء والضّرَّاء، والشّدَّة والرّخاء، فاللهُ أمر بسؤالهم في جميعِ الأحوالِ فقال سبحانه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 43].
وهُم بأمرِ الله أمانٌ للمجتَمَع منَ الفَوضى والتطاوُل على الحاكِم، وهُمُ الناصِحون لوليِّ الأمرِ المُذكِّرون له بما يُرضِي الله، قال سهلُ بن عبد الله: "لا يَزالُ الناسُ بخيرٍ ما عَظَّموا السلطانَ والعلماء، فإن عظَّموا هذيْن أصلحَ الله دنياهم وأخراهم".
ومِن أُسُس هذا الدينِ النصيحةُ لكلِّ فردٍ وإن علا، قال : ((الدينُ النصيحة))، قلنا: لمن؟ قال: ((لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين، وعامَّتهم)) رواه مسلم.
وقد سَلَك السلفُ الصالحُ السبيلَ الأقومَ في النُّصح للحاكم على ما جاءَ به الكتابُ والسنّة مِن غير تشهيرٍ به ولا تنقُّص، قال ابن القيِّم رحمه الله: "مخاطبةُ الرّؤَساء بالقولِ الليِّن أمرٌ مطلوبٌ شَرعًا وعَقلاً وعُرفًا؛ ولذلك تجِد الناسَ كالمفطورين عليه، وهكذا كان النبيُّ يُخاطِبُ رؤساءَ العشائرِ والقبائل".
وإذا اجتَمَعَت القلوبُ على الحقِّ والنُّصحِ قوِيَت في العبادةِ وحسُنَت بينَهم المُعاملة، وحفِظَ الله المجتمعَ من الشرورِ، وكانت يدُ الله معَهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((يدُ الله معَ الجماعةِ)) رواه الترمذي.
ومِن أوائلِ أعمالِ النبيِّ حينَ قدِم المدينةَ مؤاخاتُه بين المهاجرين والأنصارِ وتوحيدُ صفِّهم؛ لتقوَى شوكةُ المسلمين ويعيشَ الجميعُ في أمنٍ واستقرار.
ومِن تعظيم الإسلامِ للجماعة أنه أمَر بقتل من أراد تفريقَها، قال عليه الصلاة والسلام: ((إنّه ستكون هنَّاتٌ وهنَّاتٌ -أي: فتن ومِحَن-؛ فمن أراد أن يُفرِّق أمرَ هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنًا من كان)) رواه مسلم.
ولا دينَ إلا بجماعَةٍ، ولا جماعةَ إلا بإمامَة، ولا إمامةَ إلا بسَمعٍ وطاعَة، قال الإمام أحمدُ: "إذا لم يكن إمامٌ يقوم بأمرِ النّاس فهي الفتنة".
وقد أدرَك الصحابةُ رضي الله عنهم ذلك، فلمَّا تُوفِّي النبيُّ سجَّاه الصحابَة أي: غطَّوه، ثم ذهبوا إلى سقيفةِ بني ساعِدة لاختيارِ خليفةٍ له، ولما بايَعُوا أبا بَكرٍ عادُوا إلى تجهيزِ النبيِّ مِن غَسْله وتكفِينِه ودفنِه، فقدَّموا اختيارَ الخليفةِ على دفنهِ لعلمِهم للحاجة أنَّ المجتمعَ لا يصلُح ولو ساعةً بلا والي. قال عليّ بن أبي طالب : لا بدَّ للناسِ من إمارةٍ برَّةٍ كانت أو فاجرة، قيل له: هذه البَرَّة قد عرفناها، فما بالُ الفاجرة؟! قال: يُؤمَّنُ بها السبيلُ، ويُقامُ بها الحُدود، ويُجاهَدُ بها العدو، ويُقسَمُ بها الفَيْءُ.
ومن مُعتقَدِ أهلِ السنة والجماعة طاعةُ وليِّ الأمرِ بالمعروفِ وإن كانَ ظالمًا، قال عليه الصلاة والسلام: ((تسمعُ وتُطيعُ للأمير وإن ضربَ ظهرَك وأخذ مالَكَ، فاسمَع وأطِع)) رواه مسلم. قال الإمام الطحاويُّ رحمه الله: "ونرى طاعتَهم من طاعةِ الله عزّ وجلّ فريضةً ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاحِ والمُعافاةِ".
ومَن رأى من واليهِ تقصيرًا أو ظلمًا فهو مأمورٌ بالصّبر على بَغيِه منهيٌّ عن معصيَتِه والخروجِ عليه، قال عليه الصلاة والسلام: ((من كرِهَ من أميره شيئًا فليَصبِر عليه، فإنّه ليس أحدٌ من النّاس خرجَ من السّلطان شبرًا فمات عليه إلا ماتَ ميتةً جاهلية)) أي: كأنه لم يُدرِك الإسلام. رواه مسلم.
وعلى هذا النَّهجِ العظيمِ سارَ سَلفُ هذه الأمّة، فكان كِبارُ الصحابة وكِبارُ التابعين كابن عمر، وابن سيرين وابن المُسيّب يُصلُّون خلف الحَجَّاج مع عظيم ظلمِه وكثرةِ قتلِه وبطشِه، ويدعون له، قال الحسن البصري رحمه الله: "إن الحَجَّاجَ عذابُ الله، فلا تدفعوا عذابَ الله بأيدِيكم، ولكن عليكم بالاستِكانة والتضرُّع".
والإسلامُ جاءَ بدَرءِ كلِّ مَفسدةٍ عن الأفرادِ والشعوبِ؛ ليبقى الجميعُ يدًا واحِدةً مُتلاحِمة مُطمَئِنةً، نابذين كلَّ فُرقةٍ واختلافٍ، قال ابن مسعود : (وما تكرهونَ في الجماعة خيرٌ مما تُحبُّون في الفُرقة).
وأخَذ بهذه القاعدةِ علماءُ أهلِ السنّة والجماعَة، فاجتنَبوا الشذوذَ والخلافَ والفُرقَة، ونهَوا عن كلِّ وسيلةٍ تَدعو إلى مُنابَذَة السلطان أو الخروج عليه.
والصّحابةُ رضي الله عنهم أجمعوا على تحريمِ هذا، وذلك حين حُدوث أوّلِ خُروجٍ على الإمامِ في الإسلام، لما قدِمَ نفرٌ من أهلِ مِصر والبصرةِ والكوفَة ونزلوا على مشارِفِ المدينَةِ لحِصار عثمانَ بنِ عفان في داره، طالبين عزلَ نفسِه من الخلافةِ أو قتلَه. قال ابن كثير رحمه الله: "فكلُّ الناس أبَى دخولهم -أي: إلى المدينة- ونهى عنه".
فكلُّ تظاهُرٍ سَواءٌ كان بِسِلاحٍ أو خَلا من سلاح فهو محرَّمٌ في دينِنا، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "أهلُ العِلمِ والدّين والفضلِ لا يُرخِّصون لأحَدٍ فيما نهى الله عنه من مَعصِيَة وُلاةِ الأمورِ وغِشِّهم والخروجِ عليهم بوجهٍ من الوُجوه، كما قد عُرِف من عاداتِ أهلِ السنة والدين قديمًا وحديثًا". وأجمع العلماءُ على تحريمِ الخروجِ عليهم وإن بدَر مِنهم ظلمٌ أو قُصور، قال النوويُّ رحمه الله: "الخروجُ عليهم وقِتالُهم حَرامٌ بإجماعِ المسلِمين، وإن كانوا فَسقةً ظالمين".
ولم يخرُج أحدٌ على إمامِه إلا ندِم، وكانت مفسدةُ خروجِه أعظمَ من الصَّبر عليه، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "أهلُ السّنّة يأمرون بالصبر على جَورِ الأئمَّة وترك قتالهم؛ لأنَّ الفسادَ الناشِئ من القتالِ في الفتنةِ أعظم من فسادِ ظلم ولاةِ الأمر، وقلَّ من خَرجَ على إمامٍ ذي سلطانٍ إلا كان ما تولَّد على فِعلِه من الشرَّ أعظمَ مما تولَّد من الخير".
وحَدثَ من الخليفةِ المأمونِ أمورٌ في الدّين جِسام؛ كنفيِ صفات الله عز وجل والقول بخلق القرآن، وعذَّب من أنكر ما دعا إليه، فسجَنَ وجلَدَ إمامَ أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، ولم يأمر أحمدُ بن حنبل ولا كِبار أهل العلم في عصره كإسحاق بن راهويه ومحمد بن نوحٍ ولا غيرهم بالخروج عليه.
وفي حشدِ الناسِ والتّنادي بجَمعهم والتكالُب ضدَّ إمامهم شتاتٌ لشَملِ الأمّة وتفريقٌ لكلمتها، وإثارةٌ للفتن والفَساد، ويُوقِعُها في خُنوعٍ وكروبٍ، وجوعٍ وحروب، ونهبٍ وسَفكِ دماء، وتحقيقٍ لمآربِ الأعداءِ، ومن يتحمَّل إثمَ سفكِ الدماءِ وقتل الذَّراري وترمُّل النساءِ وهَتك الأعراض وسلب الأموال ونهبَ الخيرات؟! قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "والاجتماعُ الذي فيه نقصٌ كبير خيرٌ من الافتراقِ الذي يُظَنُّ فيه خيرٌ كثير".
والقتالُ وسَفكُ الدّماء بين الأمَّة هو ما خشِيَه النبي عليها، فقال: ((لا ترجِعوا بعدِي كفَّارًا يضربُ بعضُكم رِقابَ بعض)) متفق عليه.
فكلُّ تظاهُرٍ على الحاكِم فهو محرَّمٌ وإن أذِنَت به أنظِمَةٌ وضعيَّة؛ لمُخالفَتها لما جاء به الإسلام، قال ابن القيِّم رحمه الله: "وما يحصُل بسبَبِ قِتالهم والخروجِ عليهم أضعافُ أضعافِ ما هم عليه".
ولما كانت هذه البلادُ بحمد الله مُحكِّمةً لشرعِ الله، مُستنيرةً بآراءِ العلماء؛ عمَّ في أَرجائها بفضلِ الله الأمنُ والرَّخاء، وخابَت فيها ظنونُ الأعداء، وتلاحَمَت فيها يدُ المحكوم مع الحاكم.
أيّها المسلمون، دِينُ الإسلام دينُ اعتدالٍ وأمَان، مُوافقٌ للفِطَرِ والعقولِ، قال سبحانه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30].
ولا ينفَع للشعوبِ سوى الإسلام؛ فبِه الأمانُ والسكينة، وهو وقايةٌ من الفُرقَة والاختلافِ، قال عز وجل: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82].
وإذا سلَكتِ الشعوبُ مَنهجَ أهلِ السنّة والجماعَة في مُعتقداتها مع خالِقها، ومعاملاتها مع الخلق؛ اطمأنَّ الراعي والرعيَّة، فلا خروجَ ولا فوضى ولا اضطرابَ، وإذا ابتعدَ الناسُ عن الدّين دخَلتِ الأهواء في النفوس، واختلفَتِ الآراء، فتفرَّقتِ الكلمةُ وعمَّ البلاء.
وفي زمنِ الفتن يتأكَّدُ العِلمُ الشرعيّ وغَرس العقيدةِ الصحيحةِ في نفوسِ الناشِئَة والشباب والكهول؛ لتكون درعًا حصينًا في وجه شُبَه أهلِ الباطل وشهوات الأعداء.
وممّا يُديم نعمةَ الأمن والرخاء في الشعوب الإكثارُ من أنواع الطاعات، وأحبُّ عبادةٍ إلى الله إفرادُه بالعبادة ونَبذُ الإشراكِ به؛ مِن الاستغاثةِ بالأموات ودعائِهم، والطوافِ على الأضرِحَة والقبور، ومُجانبةُ أنواع المعاصي، قال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55]. والأمرُ بالمعروفِ والنّهيُ عن المنكرِ مِن أُسُسِ إصلاحِ المجتمَع وتَرسيخِ هيبَة السّلطانِ في رعيَّته.
وممّا يُنزِلُ السكينةَ على الشعوبِ ويجعلُها تنبُذُ الفوضى والاضطراب إكثارُ الجميعِ مِن تلاوة كتابِ الله العظيم، ونشرُ ذلك في المساجِدِ ودُور العِلمِ في المُدن والقرَى للصّغار والكِبار؛ فهو كِتابٌ مُبارَك يَنشُر الخيرَ، ويمنع الشرّ، ويُطمئِنُ النفوس، قال سبحانه: أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28].
وسعادةُ الجميعِ في التّمَسُّك بالدّين وتحكيمِ الشّرعِ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني الله وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول ما تَسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميعِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشَأنه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيّها المسلِمون، الكلِمَةُ أمَانةٌ يُسأَل عنها العبدُ يومَ القيامة، وأكثرُ ما يَكبُّ الناسَ في النارِ على وجوهِهم حَصائدُ ألسنَتِهم، والصدقُ في الحديثِ ونَقله من سِيما العقلاء، والإسلامُ أمر أن لا يتحدَّثَ المرءُ إلا بما فيه نفعٌ أو يَصمُت، قال عليه الصلاة والسلام: ((مَن كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت)) متّفق عليه.
ومِن صفاتِ مرضى القلوبِ الإرجافُ والكذِب في نَقل الأحداث أو تحريفها أو المبالغة فيها بغيًا وإفسادًا، قال جلَّ شأنه: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء: 83].
وقد أمَرَ الله بالتثبُّت في أخبارِ الفُسَّاق والمجاهيل، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6].
والمرءُ مَنهيٌّ أن يتحدَّثَ بكلِّ ما يسمَع، قال عليه الصلاة والسلام: ((كَفَى بالمرءِ كذِبًا أن يُحدِّث بكلِّ ما سمِع)) رواه مسلم.
وعَلَى المسلِم أن لا يكونَ أُذنًا لغَيره؛ بل يكون حَصيفًا لا يُخدَعُ بأقوالِ الماكِرين ودَعوة المُفسدِين، وأن يحفَظَ دينَه ومُعتقَدَه من سموم الكائدين.
ثم اعلَموا أنَّ الله أمركم بالصّلاة والسّلام على نبيِّه...
المفضلات