بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله، تفرّد عزًّا وكمالاً، واختصّ بهاءً وجمالاً وجلالاً، أحمده سبحانه وأشكره، تقدّس وتنزّه وتبارك وتعالى، وأسأله جلّ في علاه صلاحَ الشّأن كلّه حالاً ومآلاً. وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكِ له، أمرنا بعبادته وطاعته غدوًّا وآصالاً، وحذّرنا مغبّةَ التفريط لهوًا وإغفالاً، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورسوله أزكى الورَى خِصالاً، وأسنَى البريّة خِلالاً، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين بلغوا من السّؤدَد ذُراه، وتفيّؤوا من المجد ظلالاً، والتّابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها الناس / اتقوا الله حق التقوى فهي وصية الله لي ولكم ولمن كان قبلنا {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ }
عباد الله / وقت المسلم أمانة عنده ، وهو مسؤول عنه يوم القيامة ، وهو ثمرة العمر طيبة كانت أو خبيثة .. وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله : ( السنة شجرة، والشهور فروعها، و الأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل )
فالوقت ياعبد الله هو حياتك ، وهو نبضات قلبك، فحياتك هي أعظم من كل كنوز الدنيا بأجمعها.
الوقت هو رأس مالك الذي تشتري به جنّةَ الخلد حيث النعيم الأبدي أو نار جهنم والعياذ بالله حيث الجحيم الأبدي .
ولعظم الوقت أقسم الله به بقوله وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
بل أقسم بأجزائه فقال:وَالْفَجْرِ وَلَيَالْ عَشْرٍوأقسم باللّيل والنهار في قوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىوأقسم بالضحى في قوله: وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى
ومماجاء في السنة عن أهمية الوقت : حديث معاذ بن جبل الذي رواه الطبراني في المعجم الكبير والبزار في مسنده، وهو صحيح بشواهده، أن النبي قال(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه ، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه )).
لن تزول قدما العبد في ذلك الموقف حتى يحاسب عن مدّة أجله فيم صرفه بعامَّة؟ وعمَّا فعل بزمانه وقت شبابه بخاصة؟ وهنا تخصيصٌ بعد تعميم للأهمية والتأكيد، وإلا فإنّ مرحلة الشباب وعُمر الشباب هي مرحلة داخلة ضِمنًا في العمر الذي يسأل عنه العبد، لكن خُصَّ بالذكر لأن الإنسان في مرحلة شبابه يكون لديه أكثر العطاء وأمضاه وآكده وأثمره من طرفَي العمر، حيث ضعف الطفولة وضعف الشيخوخة.
وإذا تأملنا حال رسولِنا مع وقته فقد كان أحفظَ الناسِ لوقتِه ، كان يحفظُ دقائقَه وثوانيَه مع الله، كلُ لحظةٍ تمرُ به عملاً صالحاً يرفعُه إلى الواحدِ الأحد.
يقول ابنُ القيمِ في كلامٍ ما معناه :كان كلامُه صلى الله عليه وسلم ذِكراً لربِه، وفعلُه ذكراً، وحركاتُه، وسكناتُه، وليلُه ونهارُه، وحلُه وترحالُه، وكلُّ لحظةٍ في حياتِه ذِكراً للهِ الواحدِ الأحد.
نعم عباد الله فمن بُورِك له في عمره أدرك في يسير الزمن مِن مِنَنِ الله تعالى ما لا يُحصَى، وكم من موفّق لأعمال كثيرة في أزمنة يسيره، حتى إنك لتحسب إنجازاتهم ضربًا من الخوارق، وما هو إلا التوفيق والبركة واستثمار الوقت فيما ينفع، وخير مثال لذلك رسول الله الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور، وغَيّر وجه التاريخ في ثلاث وعشرين سنة.
ثم درج على ذلك صحابته رضي الله عنهم في حفظهم لأوقاتهم واستثمارهم لها وبركة الله عز وجل لهم بها فهذا رسول الله يسأل صحابته كما ينقل لنا أبوهريرةقال: قال رسول الله -: (من أصبح منكم اليوم صائمًا؟)، قال أبو بكر: أنا، قال: (فمن تبع منكم اليوم جنازة؟)، قال أبو بكر: أنا، قال: (فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟)، قال أبو بكر: أنا، قال: (فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟)، قال أبو بكر: أنا، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: (ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة). والحديث رواه مسلم
وهذا عمر بن الخطاب يواصل ليله بنهاره يقول: (إن نمت الليل ضيّعت نفسي، وإن نمت النهار ضيّعت رَعِيّتي) فكيف النوم بين هذين!
وهذا سعد بن معاذ اسلم وعمره ثلاثون سنة وتوفي وعمره سبعة وثلاثون سنة فأستثمر وقته سبع سنوات وكانت النتيجة أن اهتز له عرش الرحمن عند موته .
وكان ابن مسعود يقول ما ندمت على يوم كندمي على يوم غربت فيه شمسه قلّ فيه عملي وقرب فيه أجلي.
نعم – عباد الله - ما من يوم إلا ويقول يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لاأعود إلى يوم القيامة .
فاغتنموا أوقاتكم – عباد الله - فيما ينفع، فالعمر أيام وساعات، وما مضى منها لا يعود.
نَفَعني الله وإيَّاكم بالقرآنِ العظيم وبهدي محمّد صلى الله عليه وسلم ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولَكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما ً كثيرا... أما بعد : عباد الله / اعلموا – رحمكم الله تعالى - أن التسويف عجز وكسل، وما أكثر الذين يأخذون من التسويف شعارًا لهم، يمكنونه من قلوبهم حتى تقطعت الأوقات والآمال وانصرمت الأزمنة وحلت الآجال ، ولهذا قال : ((بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنىً مطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال؛ فشر غائب ينتظر، أو الساعة؛ فالساعة أدهى وأمرّ)) رواه الترمذي في سننه ، والحاكم في مستدركه عن ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي .
نعم - عباد الله - يخيَّل لبعض الناس أن الأيام ستفرغ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من المكدرات والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغ منه في الماضي أيام الشباب، ولكن الواقع المشاهد على العكس من هذا، كلما كبرت سِنُّك كبرت مسؤولياتك ،وزادت علاقاتك ،وضاقت أوقاتك ،ونقصت طاقتك .
فالوقت في الكبر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة فيه أقلّ، والنشاط أدنى، والواجبات والشواغل أكثر وأشدّ.
فاتقوا الله عباد الله وحافظوا على أوقاتكم فاليوم عمل بلاحساب ، وغداً حساب بلا عمل ، وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد بن عبد الله صلى الله عليهوسلم ، كما أمركم الله عز وجل بذلك .............
المفضلات