الأقنعة كثيرة وخلف كل قناع حقيقة صاحبه في كذبه وزيفه..
وقد نحتاج إلى موقف حقيقي ليظهر من خلاله ما وراء ذلك القناع وما كان يختفي خلفه..
وقد نحتاج إلى أعمق رؤية ندرك من وراءها ومن أقصى ما تصل له أن لدى كل قناع مزيف قناع آخر
يكشف زيفه وكذبه.. وهذا هو قناع الزمن حينما ينجلي ما به وتمرّ أيامه ويطوف فيه ما يطوف فترفع الأقنعة
وينفضح أمر أصحابها.. حينها لا يجدوا لهم مكاناً حتى بين أقربائهم وأحبتهم..
لهذا أجد أن أكبر الخاسرين في هذه الحياة هم أصحاب الأقنعة.. لأنهم يحملون حقائبهم المليئة بالأقنعة
ويتعاملون بها مع من حولهم.. فمنهم من يحمل قناع الصدق ليكون ممن يحملون الفضيلة ليجني منها
مصالحه الشخصية.. ومنهم من يحمل قناع الحب ليكون صاحب عاطفة فيسكن قلوب من حوله
ويجمع منهم أكبر عدداً ما يمكنه جمعه حتى يحصد منها تلك المصالح التي في داخله..
ومنهم من يحمل قناع الإنسان المدرك والعارف كل شئ في هذه الحياة ليكسب أحترام من حوله
مع أنه لا يدرك منها شيئاً غير أنه يحفظ بعض الأسطوانات فيرددها على من حوله فيجد لعقله
مكاناً في وسطهم فينعم بتقديرهم وحبهم له..
ومنهم من يحمل قناع العطاء والكرم فيعطي ليجني أكثر مما أعطى لأنه يعلم مع من يتعامل
ومدرك أن هذا الإنسان قد يعطي أكثر مما لديه.. لأنه إنسان كريم وفاضل فيقدر من أعطاه شيئاً..
فدائما نجد أن أصحاب أقنعة العطاء أنهم عند أهل العطاء والكرم والفضيلة لأنهم يجنون منهم
أكثر مما تمنـتهُ عقولهم وقلوبهم..
ومنهم من يحمل قناع العادل والمنقذ الذي تجده يفتش في كل مكان وفي كل بيت عن مشكلة حدثت لهم
فيحاول أن يكون فيها المنقذ والذي وجد الحل لها.. مع أنه هو الذي أنجب تلك المشكلة وصنعها بيده
ليحتوي منهم على مكاناً خاصاً وسط صدورهم فيكون الأقرب إليها..
ومنهم من يحمل قناع الأمانة والضمير فيتعامل بها في معاملاته التجارية بين الأسواق والأماكن العامة
تجده يقترض مبلغاً من المال أو شيئاً آخر من جهة كان يتردد عليها.. فأنه في بداياته لا يتأخر في سداده
حتى يوهم صاحب المال بأنه صاحب ضمير وأمانه وأنه لا ينام في مضجعه إلا أن يردّ دينه..
إلى أن يصل في حالة أنه يقترض منه مبلغاً آخر ولكنه هذه المرة مبلغاً طائلا..
فتجد بعدها أن لا عنوان له ولا مكاناً يشير إلى وجوده.. وأنه صادر ذلك المال بلا رجعة..
فما أكثرها من أقنعة تتزايد يوماً بعد يوم.. ويكثر أعداد أصحابها كلما كثرة أحتياجاتهم..
ولكنهم لا يعلمون أن في نهاية أمرهم.. لا يحصدوا شيئاً غير ضياع أيامهم وكسبهم
رذيلة خطاياهم.. فيصبحوا لا قيمة لهم بين الناس ولا بين من حولهم..
والأكثر قرابة في هذا هو أني أجد أحدهم يملك مفهوماً.. أن على الإنسان أن يملك
قناعاً أخر غير قناع وجهه الحقيقي ليتعامل به وقت حاجته.. ويرى أنه للضرورة أحكام
وكأن هذه القول وهذه الضرورة تشفع له يوم لا ينفع به غير عمل صاحبه..
فتجده أحياناً يكذب كذبته ويدمر ما حوله فيظهر أنه كان يريد أن يجني من وراءها خيراً
بعدما أنتهت حياة من كان يتعامل معه.. وتجده أيضاً أول الصفوف في المساجد
ويتردد عليها كثيراً إلى أن يجني ما كان يطمع به..
وقد كنت يوماً أسير في مركبتي على الطريق وصدفه من أمري ألتقيت برجل تبدو على وجهه
ملامح الصلاح فأشار بيده نحوي فأوقفني حتى أنقله إلى ما كان يريد..
وبينما نسير في الطريق قال لي أرجوك أن تزيد من سرعتك حتى يمكنني أن أدرك صلاة المغرب
في ذلك المسجد الذي يكون مكانه في أقصى المدينة.. فأخذني العجب منه والتساؤل بيني وبين نفسي
فكم مسجداً قد مررنا من حوله ولم يوقفني عنده أن كان غرضه صلاته.. ويبدوا أنه مصرَّ على ذلك المسجد
فقلت له : أخي الكريم حتى لا تطوف علينا الصلاة فما رأيك أن نصلي بهذا المسجد.. ؟
قال لي : لا بل أريد ذلك المسجد ؟؟
قلت له : وما الضرر في هذا المسجد !!؟
قال لي : لا ضرر به ولكن المسجد الذي أقصده فأن أمامه فلان وأن شهادته يأخذ بها الجميع
قلت له : وأيّ شهادة تقصد !!؟
قال لي : شهادة أني رجل أصلي كل يوم..
قلت له : وهل يهمّكَ أن توصل للجميع أنك عابد وتصلي لربّك
أكثر من أهتمامك أن توصل ذلك إلى خالقك !!؟
قال لي : ليس بهذه الصورة ولكني أحتاج لشهادة فلان لأنضمَّ للجمعية الخيرية
وأخذ منها مرتباً شهريّـاً وأجني منها بعض متطلبات البيت.. ؟
قلت له : يبدو أنك رجل لم تزيد عن عمرك الأربعين ويظهر لي أنك ذو صحة جيدة
لا يتمتع بها غيرك.. فلماذا لا تبحث عن عملاً وتكسب منه لقمة عيشك دون أن تأخذ ما يحتاجه غيرك
والذي هو أحق الناس به.. لعجزه وإعاقته..
فكيف لك أن تشعر براحة البال وتنام في مرقد نومك.. وأنت ممن لا يستحقون
تلك العطايا فغيرك جديراً فيها وأحق منك بها !!؟
قال لي : ومن قال لك أني لا أعمل بل لديّ أكثر من عملاً.. أتعرف ذلك المسجد بقرب ذلك المكان..؟
قلت له : نعم وما به !؟
قال : أني المؤذن له.. وغير هذا أني أعمل كاتباً في تلك المحكمة ولديّ عدّة بيوت مستأجره أجني منها
وكل هذا تجد أني لا أعمل.. !!؟
قلت له : ما دام لديك كل ذلك فما حاجتك أن تطلب شهادة إمام جماعة وأنت مؤذن لإحدى المساجد.. !!؟
ما حاجتك لذلك المال وتلك العطايا وأنت أغنى من غيرك وتأخذ ما ليس لك حق فيه !!؟
قال لي : يا أبني بصوته البحيح أن تلك الجمعية في عطاياها تشمل الجميع فكل البشر في هذا الزمن
محتاجه لها ولستَ أقل من غيري حتى لا أخذ منها.. وخصوصاً أن هذه الأموال
قد تبرّعت بها الدوله لجميع الشعب فما ينقصني حتى لا أكون من بين صفوفهم.. ؟
قلت له بصوت مرتفع : ينقصك ضميرك وشيّم أخلاقك وعفة نفسك فكيف يغمضَّ لك جفناً
وبداخل بطنك احتياجات غيرك.. أليس هناك من وقف أمام أبواب الجمعيات وبقي على أرصفتها
طول ليله ساهراً ينتظر طلوع الفجر ليكون أول القادمين لها ويجني منها بعض الطعام لأبناءه الصغار
وهو إنسان عاجز لا حيلة له غير أن يطلب لقمة عيشه من غيره..
وأنت الذي تنام على ريش النعام وتأكل أفضل الطعام وتأخذ أكثر مما يخذه المحتاج من هذه الحياة !!؟
أأليس من الظلم الكبير أن تظهر عجزك وعدم قدرتك لتحصل أكبر قدر من عطايا الحياة !!؟
قال لي بعبرات الباحث عن العبرات : أن للضرورة أحكام
قلت : يا رجل أما تخاف ربك تأكل حق غيرك وتقول للضرورة أحكام.. أيّ ضرورة تشفع لك
وقد أجرمت بحق المحتاجين وأخذت منهم لقمة عيشهم وهم أحق منك بها..
أما تعلم أن هذا يبقى ديناً عليك يوم حسابك ولن يُشفع لك إلا أن تردّ دينك.. لأنك أظهرت للجميع
قناع المحتاج وأخذت عليهم حقوقهم.. ؟
لم يقل بعدها شيئاً غير أنه طلب مني أن أوقف مركبتي فنزل وسار بدربه..
فالأقنعة مازالت باقية وما زال أوجه أصحابها تتزايد أعدادها يوماً بعد يوم..
فلا أقل من أن نسأل الله الصلاح والهداية..
المفضلات